تركوا مواقعهم قبل أن تتركهم.. فاستحقوا التكريم !
في الدول المتقدمة تجارب تستحق النظر والمحاكاة والاعتبار.. نيلسون مانديلا الأب الروحي لتحرر جنوب أفريقيا من العنصرية ومن نيران الاحتلال ترك الحكم طائعًا مختارًا بعدما وضع بلاده على الطريق الصحيح.. وفعلها مهاتير محمد رائد النهضة في ماليزيا.. وكذلك المستشار الألماني هيلموت كول الذي وحَّد الألمانيتين وأزال سور برلين الذي فرق بينهما.. وترك جورباتشوف الحكم رغم ما أثير ضده من أقاويل وشائعات واتهامات تصل لحد الخطايا بعدما أعاد للروس حريتهم وكرامتهم.. وغادر أيزنهاور البيت الأبيض بعد انتصاره المشهود على ألمانيا وتحرير أوروبا من قبضة النازي.. وعلى الطريق ذاته سار تشرشل في إنجلترا وديجول في فرنسا.
بين كل هؤلاء القادة العظام قواسم مشتركة أهمها صناعة النجاح والجماهيرية وبلوغ أقصى درجات المجد.. ثم الزهد في المناصب وعدم التوحد بها أو الوقوع في غواية التأبيد أو جنون العظمة رغم لياقتهم وقدرتهم على البقاء ورصيدهم الجماهيري الهائل.
هؤلاء العظام خَلَّدهم التاريخ لأنهم بقدر ما أعطوا وحققوا من نجاحات.. أدركوا ضرورة اختيار اللحظة المناسبة لترك المناصب قبل أن تتركهم فاحتفظوا بحب الناس دون أن ينالهم سوء أو يهيل أحد على إنجازاتهم التراب.
الاعتزال لحظة تاريخية فارقة في حياة أي لاعب، سواء في السياسة أو الرياضة أو الفن وغيرها، وقد تكون تاجًا فوق رأس صاحبها أو عارًا يلاحقه ما بقي من عمره.. فإن ترك موقعه طواعية في قمة عطائه ومجده فسوف يسجل اسمه بأحرف من نور في تاريخ الخلود، كما فعلها النجم محمود الخطيب ومن بعده أبو تريكة.. أما إذا عاند سنة الحياة وأراد احتكار النجومية واستمرأ الأضواء والشهرة فسوف يحترق بنارها مضطرًا.
أتصور أن لكل شيء نهاية كما له بداية.. والعبرة دائمًا بالخواتيم.. فما جدوى أن يحقق شخص نجاحًا مدويًا أو ثروة هائلة أو مجدًا وشهرة فائقة ثم ينتهي به الأمر سجينًا أو مهانًا أو ملعونًا في كتب التاريخ.. أو منسيا في زوايا التجاهل والإهمال..
في حياتنا أمثلة كثيرة.. في الصعود نحو القمة أو السقوط إلى الهاوية.. في ثقافتنا فضيلة "غائبة" اسمها الزهد والاكتفاء وإعطاء الفرصة للآخرين والإيمان بضرورة تداول المناصب والمواقع وتعاقب الأجيال فالقدرة على العطاء هي الفيصل وليس الرغبة في البقاء والإقصاء والتكويش على كل شيء.. العدالة في تداول المناصب وتناقل الخبرات وتلاقح الأفكار وضخ دماء جديدة باستمرار في شرايين الحياة هي الضمان الأكبر لاستمرارية النجاح وبقاء الدول على القمة.