رئيس التحرير
عصام كامل

أبناء الوهم


وقف الطفل أمام النافذة ليتأمل السماء وبدأ يشاهد الأشكال العشوائية التي يتكون منها السَحاب عندها قام عقله بمحاولة تفسيرها وتحويلها إلى أشكال منتظمة ليفهمها، فبدأ يتخيل الغيوم على هيئة طائر أو حصان أو غيرها من الأمور التي تجول في خاطره ليرى في السماء ما يريد أن يراه وليس ما يراه فعليًا.


هذه الظاهرة النفسية تسمى "استسقاط" وهي تجربة إنسانية نمر بها عندما نحاول تفسير أمور مبهمة وغير منتظمة وعشوائية -رأيناها أو سمعناها- وإعطاءها معنى ومصداقية وقيمة لا تستحقها.

الاستسقاط تجربة لا تمثل خطورة إلا إذا تم استخدامها في السياسة أو الدين مثلما احتفل محافظ سابق بتواجد لفظ الجلالة فوق بيضة!

كبر الطفل وأصبح مراهقًا ينظر للقمر متخيلًا صورة محبوبته وقد انطبعت عليه.. ثم مرت سنوات أصبح خلالها المراهق رجلًا لا يجلس أمام النافذة لتأمل السَحاب أو القمر ولكن يجلس أمام شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد ليشاهد الخطب ويتأمل القرارات ويحاول أن يُضفي عليها معنى ومصداقية وقيمة لا تستحقها..

وهو فعل تطوعي يقوم به لأنه يرفض تصديق مدى العشوائية التي يراها، فيبدأ في الخلط بين تفسير المعنى الذي يراه وبناء معنى جديد يتمناه ويرغب في رؤيته.. وقتها يُصبح لديه خلل في الفهم يجعله يصنع الوهم ويؤمن به ويبتكر تفسيرات للفشل والأوهام بشكل أكثر براعة من تفسير الأحلام لابن سيرين..

وإذا كان هناك فيلم عنوانه (أبناء الصمت) يحكي سنوات ما بين حدثين "النكسة والانتصار"، فعلينا التفكير في سبب تواجد (أبناء الوهم) الذين ظهروا وانتشروا خلال ثورتي "يناير ويونيو".

ظاهرة الاستسقاط ليست الأغرب علميًا، فهناك متلازمة "اليد الفوضوية" -وهي غير الدولة الفوضوية- حيث تتصرف وتتحرك يد المريض من تلقاء نفسها ودون تحكم بها نتيجة خلل في المخ.

لذا إذا رأيت أحدهم يُضفي معنى وتفسيرا منطقيا لتصريحات أو قرارات من الواضح جليًا أنها خاطئة وعشوائية، فعليك ألا تتردد في ضربه بالقلم على وجهه لعله يفيق.. أما إذا اعترض، فأخبره بأنه يبالغ في استخدام ظاهرة "الاستسقاط" والتي تحفز عندك متلازمة "اليد الفوضوية".
الجريدة الرسمية