رئيس التحرير
عصام كامل

مشجعات الكافيهات.. وطنية الكرة والمال

انتهى مولد المنتخب الكروى لكرة القدم، وبدأت تخفت معه ظاهرة الوطنية الزائفة المعلقة بأقدام ثلة من لاعبى الكرة، أفقرهم يستطيع إغناء حي سكني كامل في أي مدينة مصرية، لكن هذا لا يحدث لأن هؤلاء اعتادوا على الأخذ فقط ولم يسمعوا شيئا عن العطاء سوى عطاء الدولة لهم وتدليلهم على مر العصور في وطن أكد رئيسه أنه في حالة ضياع وأن شعبه فقراء أوى أوى!


طبيعيا أن يلجأ المهزوم سواء كان شعبا أو حكومة أو دولة إلى مسكن سريع ينسيه همومه، ولا ضير من أن يلجأ الجميع إلى التعلق بحبال الأمل الواهية حتى وإن كانت مباراة كرة قدم.. لعب يعنى.. مهما علا شأنه لن يوصف بكونه تقدما اقتصاديا أو تطورا اجتماعيا أو هدفا قوميا يرتقى بفقراء الوطن أو يعالج مرضاه.. لكن تبقى الحقيقة وهى أن فئة كبيرة عددا وليست نوعا من الشعب تغيرت بالفعل وعليها أن تحاسب نفسها قبل أن تتهم الحكومة بالاستغلال السياسي لحدث كروى قوامه قدم تركل كرة في مكان محدد فتجلب السعاده وتنسى الهموم وتجعلنا نتغنى بأمجاد وهمية هلامية لا تسمن ولا تغنى من جوع !


فإذا كان التعليم لن يجدى في وطن ضائع كما سبق، وأكد رئيس الدولة، فما عساها كرة القدم وبطولة أفريقيا أن تصنع لهذا الوطن!.. لكن يبدو أنها تفعل الكثير على المستوى المعنوى والتخديرى اجتماعيا وسياسيا، فهذا الحدث أخذ زخما شعبيا كبيرا بسبب الأعداد غير المسبوقة من المشجعات اللاتى شغلن كثيرا من مقاهى مصر بأكملها بحثا عن سعادة مؤقتة.. قد تظن أن لفظ مشجعات خطأ إملائى من كاتب المقال، وهو بالطبع ليس كذلك، فوجود النساء من مختلف الأعمار على (الكافيهات) الشيك والغالية الثمن ظاهرة ملحوظة بشدة في مختلف أنحاء البلاد وليس فقط في القاهرة والإسكندرية، لدرجة أنهن كن أكثر من الشباب والرجال الذين اعتادوا على ذلك !

تنم تلك الظاهرة عن تبدل وتحول في قيم فئته من المصريين حتى وإن كانت صغيرة نوعا ما، فهى كبيرة عددا نسبة لوطن أوشك تعداده على الوصول 100 مليون نسمة، لذا عندما تجد عشرات الآلاف من النساء على المقاهى أو (الكافيهات) لأنهن يفضلن تلك التسمية الأجنية عن الاسم العربى البلدى، فاعلم أن الأمور تبدلت والقيم تغيرت وفقا لمعطيات معينة الجميع يعلمها ولكنه لا يصارح نفسه بها! 


بالقطع التسمية المختارة نسويا واجتماعيا هذه في حد ذاتها تعكس تدهورا ثقافيا وهشاشة معرفية وضآلة فكرية ومظهرية فارغة، فما الفرق بين الاثنين سوى التمحك في ثقافة أجنبية لم نأخذ منها سوى أسوأ ما فيها!


لكن لا بد أن ندرك أن ثمة طبقة جديدة قوامها الأثرياء الجدد من الذين استفادوا كثيرا من التحولات الاقتصادية الكارثية في مصر، والذين اغتنوا بشدة طفيليا في السنوات الأخيرة، إما بسبب منح وامتيازات خاصة في العمل أو بسبب اكتنازهم للدولار أو بسبب الوصول لمناصب بعينها لا يستطيع أحد الاقتراب منها سوى بحسابات دقيقة، أو بالعمل التجارى المتسيب ربحا واستغلالا بلا رقيب.. هؤلاء صنعوا قيما خاصة بهم تجلت إحداها في هروب النساء من المنازل بدعوى الجلوس على الكافيهات أو بدعوى التحرر أو بدعوى مساندة الوطن في مباراة كرة قدم يفصل بين ملعب المباراة وملعب الوطن آلاف الأميال، فكيف تكون إذن المساندة! 


مهزلة هي إذن، ولكنها مهزلة اجتماعية ذات أبعاد اقتصادية وثقافية لا يمكنك فعل شيء حيالها سوى الوقوف أمامها والتفكر فيها.. بل والتندر أيضا!


المجتمع يتحول تدريجيا في صالح من يملك دون النظر لمصدر ما يملكه وكيفية اكتسابه له، قيم المغالبة والصوت العالى والضجيج الإعلامي لمن يملك القوة والسطوة والمال تفرض نفسها علينا جميعا، وتلك هي الكارثة، فهذا يشى وينبئ بصراع حتمى طبقى يعود بنا أو بالأحرى ينتكس بنا لعقود بل وقرون خلت ودعها العالم بأسره من أزمان بعيدة، بعيدا عن قيم العيب والتقاليد المصرية المحافظة التي عشناها أو أصبحنا نسمع فقط عنها الآن، فهناك رجال لا يعنيهم أن تذهب بناتهم أو زوجاتهم للكافيه بمفردهن أو فى صحبتهن.. وهذا حقهن بلا شك ! 

لكن ما يعنينا أن مصر الآن بين طبقتين: الأولى كبيرة عددا لكنها مفقورة ومهمشة وكسيرة ولا صوت لها أو عنها، والأخرى قليلة عددا ولكنها متمكنة ومهيمنة ومزعجة بشكل يجعلها تفرض سطوتها على الجميع اقتصاديا وقيميا، فهل تتخيل أن فتاة عاملة فقيرة تضحى بعشرة جنيهات كحد أدنى لمشاهدة مباراة كرة قدم بينما هي تقتطع من راحتها وكرامتها الإنسانية من أجل توفير جنيهين في أتوبيس نقل عام أو ميكروباص غير آدمى !


هل تتخيل أن مواطنة مصرية محترمة مثل التي أبكت وائل الإبراشى ومن معه ومن شاهدها، عندما صرحت أنها وأطفالها يبيتون بغير عشاء كانت تفكر، مجرد التفكير في عصام الحضري ومن معه!.. بالقطع هؤلاء لا يستطعن مجرد التفكير أبعد من معضلة (تقضية) يومهم بغذاء قليل وستر من الله، لكن الصورة الغالبة هي أن الجميع كان يرقص من أجل المنتخب وعليك أن تحكم إن كان هذا حقيقيا أم لا.. فليجب ضميرك الإنساني وحسك الوطن الحقيقى بعيدا عن زيف الكرة ومستفيديها! 
Fotuheng@gmail.com

الجريدة الرسمية