نموذج الإصلاح الصيني والأمريكي.. أيهما أنسب لمصر؟
إن تجارب الإصلاح التي استوحي منها صندوق النقد الروشتة نحو الاقتصاد المصري، هى اقتصاديات ريجان في الولايات المتحدة ولكن هناك تجربة يجب ألا يغفلها صانع القرار المصري، وهى التجربة الأكثر تناسبًا مع الواقع المصري وهى التجربة الصينية ( إصلاح جانب العرض) ولا نغفل انتقال الصين من الاقتصاد الاشتراكي المنغلق إلى انفتاح مدروس، فكما يقول "مارك زوكربيرج" مؤسس فيس بوك، إن الصين استطاعت خلال ٣٥ سنة الماضية تحقيق أهم طفرة في العالم من التحولات الاقتصادية والاجتماعية في تاريخ البشرية، ولقد انتقل مئات الملايين من البشر من الفقر بواسطة تدابير نفذتها الصين لتحقق في جهودها نحو محاربة الفقر ما لم تحققه دول العالم مجتمعة، مما حقق استقرار سياسي على الرغم من الانفتاح الثقافي وتأثير العولمة على المجتمع الصيني، بما لا يتخطى خطوط الأمن القومي وحماية الدولة من الغزو الثقافي بما يسمى القوة الناعمة.
وفي مقال سابق طرحنا أزمة الاقتصاد المصري بين تشوه الهوية بين الاشتراكية والليبرالية، لكن الصين نجحت باحترافية في التحول الآمن، وهنا يجدر بنا الإشارة إلى الفرق بين سياسة اقتصاديات ريجان وإصلاح جانب العرض(الصين) وأيهما أنسب نحو إصلاح الاقتصاد المصري، فقد دعت اقتصاديات ريجان إلى تبني رؤية مدرسة العرض الليبرالية الجديدة والنظرية النقدية (monetarism) وهى توارث لنظرية الحرية وعدم تدخل الدولة لآدم سميث..
أما الصين فقد تبنت إصلاح نظام السوق الاشتراكي ومعالجة الجذور المختلفة نحو التنمية، بدفع الهيكلة الصناعية وتكييف هيكل العرض مع تغير الطلب من خلال تلبية الاستهلاك الفعلي بمنتجات عالية الجودة مرتكزة على سياسات ماركس كأساس نظري، ويتركز محور قوة إصلاح جانب العرض على الاستفادة المشتركة للمجتمع كله من ثمار التنمية، وهو ما مثل نقطة ضعف في برنامج الإصلاح الاقتصادي لحكومة أحمد نظيف، وقد ركز الإصلاح الاقتصادي الصيني على زيادة الاستثمار في الضمان الاجتماعي وتحسين الخدمات الاجتماعية للشعب الصيني في إصلاح هيكلي عميق ومستدام، من خلال تحويل نمط النمو الاقتصادي القائم على الاستهلاك المحلي نحو القوى المحركة لدفع النمو المستمر من خلال مفاهيم التنمية الخمسة (الابتكار والتناسق الأخضر والانفتاح والتمتع المشترك) في حين أن اقتصاديات ريجان ركزت على إنعاش الاقتصاد من خلال خطة قصيرة الأجل.
تعجز أي خطط حكومية مصرية عن إحراز مكتسبات مع تفشي الاقتصاد غير المنضبط في تكوين الاقتصاد المصري بنسبة تخطت ٧٠٪ ( تقديرات غير دقيقة) وهى بيئة مثالية للفساد والتهرب الضريبي، بما يجعل الحكومة عاجزة عن التعاطي مع الإصلاح مع بروز رجال الأعمال الذين ينتهجون نمط Shock economy، وهو نمط التنقل بين نشاطات مختلفة لتحقيق أقصى ربحية بلا استقرار، وبالتالي بلا مكتسبات نحو الاقتصاد الوطني، ولعل كابوس التأميم يمثل هاجسًا لدى رجال الأعمال مما شكل نمطًا مشوهًا من رجال الأعمال المتهربين ضريبيًا (افتقاد تأسيس شركات منضبطة) مع سوء تعامل مصلحة الضرائب مع الأنشطة من خلال تقديرات جزافية، وإن كان نمط رجل الأعمال المصري سيئ فإنها إفراز طبيعي للبيئة المصرية.
مما جعل تطبيق قواعد لغة الاقتصاد العالمي بمفرداتها مثل الحوكمة الرشيدة أو الإبداع في التنمية الاقتصادية أو المسئولية الاجتماعية للشركات هو حلم بعيد المنال، فيجعل الاندماج مع الاقتصاد العالمي في ظل العولمة الاقتصادية هو تحدِِ صعب أمام الاقتصاد المصري، ويعجز القطاع الخاص أن يكون جاذبًا للاستثمار الأجنبي رغم أنه المنوط بذلك، وليس المؤسسات الحكومية ولكن في ظل وجود ٩٧٪ من الشركات المصرية هى شركات صغيرة يحكمها منطق الشركات العائلية وغير مقيدة في البورصة ولا تطبق قواعد الشفافية المستهدفة.
فأصبح موقع الاقتصاد المصري على خريطة العالم الاقتصادية هو عبارة عن سوق استهلاكي عشوائي غير منتج بسبب أسلوب القوة الأكبر المحركة للاقتصاد ( الاقتصاد الموازي) وهنا يجب أن تدرك الدولة أنه يلزم دمج هذا القطاع بالتحفيز والقوانين الملزمة( العصا والجزرة) لأن الاستثمار الأجنبي يرى أن اقتصادنا الوطني عشوائي بدرجة يعجز عن الاندماج معها بأي شكل، وبسبب عدم تداول الشركات في البورصة وانعدام شفافية القطاع الخاص كما أنها تمثل بيئة مثالية للفساد المؤسسي، الذي أصبح أكثر ترتيبًا من ذات الاقتصاد العشوائي.
للأسف فإن إصلاح وتنمية القطاع الخاص هو ضرورة وطنية نحو تحقيق تنمية اقتصادية، وهذا يستلزم أيضًا إصلاح للسياسات الحكومية الضريبية وطريقة تعاملها مع المستثمر كأنه لص يستهدف الربح فقط ( فكر الموظف الاشتراكي).
إننا في احتياج إلى وزارة حروب اقتصادية محترفة مكونة من شخصيات وطنية لها رؤية علمية ولديها الجرأة والشجاعة لتحقيق شكل واضح للهوية الاقتصادية، ما بين الاشتراكية والليبرالية لجذب الاستثمار الأجنبي بشفافية وتخضع لبرنامج زمني يحقق quick wins قصيرة الأجل، ولا تخشي رضا العامة إنما تضع ضمائرها كمعيار لتحقيق أهداف الإصلاح الاقتصادي طويلة الأجل وعلى الجانب الآخر يلزم وجود لجنة اقتصادية في البرلمان قادرة على التشريع الجريء، وليس حماية مصالح شخصية كما اعتادها الجميع ويلزم تحقيق الرقابة الفعلية للعبور من بوابة الإصلاح الاقتصادي.