..هنا الأحرار
مع بوادر رحيل عام ١٩٨٩ وإطلالة العام ٩٠ كنت على موعد مع أولى محطات العمل الصحفي.. ١٩ شارع الجمهورية هو موقع جريدة الأحرار لسان حال حزب الأحرار، أحد ثلاثة أحزاب بدأت بها التجربة التعددية الثانية.. على باب المقر عم يحيى واصل، مدير أمن الصحيفة، كما كان يلقب نفسه، حيث لم تكن الصحيفة التي هو مدير أمنها سوى شقة خمس غرف، على يسار مدخل الشقة يجلس عم كامل أقدم عمال الصحيفة، في المواجهة غرفة سكرتارية رئيس التحرير.
في التاسعة تلاحظ انضباطا غير عادى، فهذا وقت وصول رئيس التحرير الأستاذ وحيد غازي (عليه رحمة الله)، في المواجهة غرفة نواب رئيس التحرير الثلاثة.. يتوسطهم هشام طنطاوى، أروع من قابلت في حياتي المهنية، وأصدقهم، وأكثرهم دفعا للشباب، كان هشام من أسرة عريقة بالفيوم التي أنتمى إليها، أخذني من يدى كما لو كنت طفلا صغيرا، ودخل بى إلى رئيس التحرير وادعى عطفا منه أني قريبه.. قدمني إلى الأستاذ وحيد غازى.
خرجت من المقابلة مندهشا لهذا العطاء دون مقابل، هكذا كان هشام وهكذا عاش، وهكذا رحل في هدوء، يكلفك هشام طنطاوى بفكرة صحفية، وينتظرك، وعندما تعود يتسلم الموضوع ويعكف على قراءته بتأن، يعيد كتابته واضعا كل خبراته، ينظر إليك بين الحين والحين، يمنحك درسا في العبارة الصحفية الرشيقة، يعود لاستكمال كتابة الموضوع، ينتهي منه ثم يعيده إليك لتقرأه، ثم سرعان ما يطلب منك كتابته بخط يدك، تنتهى من الكتابة يدفع بك إلى رئيس التحرير، مرددا عبارات المديح في كتابتك وأسلوبك ومهنيتك.. تندهش أكثر!
أينما وجد الصراع داخل الصحيفة يختفى هشام طنطاوى، فهو صديق الجميع، لا يختلف مع أحد، وجهه عبارة عن ابتسامة تسكنها ملامح، تنقلب الدنيا رأسا على عقب بين متناحرين على الحزب العتيق، وهشام يردد: «الأحرار باقية.. الصحافة لن تدخل هذا الصراع».. يمدك بمصادر معلومات، ولا ينسى محادثة تلك المصادر؛ ليخبرهم بأنك أهم صحفى في الأحرار، هكذا كان هشام طنطاوى وهكذا عاش حياته، واحدا من أهم أقطاب صحفيي المعارضة.
لا تندهش كثيرا عندما تجده، وقد انتحى جانبا مع مواطن جاء يشكو مظلمة، وهو يجلس منه مجلس المنصت باهتمام، يلاطف البسطاء، يكتب عنهم، يتابع المصادر الرسمية لحل مشكلاتهم، يقفز كالأطفال عندما يصل إلى حل لمعضلة تهم إنسانا بسيطا، أو عجوزا تشكو الفاقة، أو شابا يبحث عن فرصة مساواة، كان هشام واحدا ممن يكتبون عندما كان للكتابة صدى، وعندما كان للقلم سلطان.
عمل هشام طنطاوي مع أساتذة كبار، عبد العظيم درويش، رياض سيف النصر، وسيد عبد العاطى، وثناء الكراس، متعهم الله بموفور الصحة والعافية، وعمل مع قادة أحزاب كبار، وشهد العديد من الصراعات الحزبية والصحفية، فلم يتورط يوما في مؤامرة، ولم يضع نفسه إلا في موقع الصديق الوفي كان حضوره نسمة صيفية تبعث على الأمل، أنتج عددا وفيرا من التلامذة أشرف بأنني كنت واحدا منهم.
التعيين في المؤسسات الصحفية كان كما لو كان مستحيلا، غير أن هشام هو واسطة كل الأجيال، يطالب، ويعاند، ويلح، ويترجى، حتى يحقق المراد، يكتب مذكرات تطالب بتعيين زملائه، يفتح بيوتا كانت تنتظر الفرج، يفرح أيما فرحة كلما حقق المراد، مراد الشباب الذين يعملون معه، رحم الله أستاذي، ورحمنى من وحشة الدرب دونه، وسلام عليه يوم علمنا، وسلام عليه يوم اختاره الله إلى جواره، وسلام عليه بين الطيبين والصالحين..غفر الله له ولنا وجعله وجعلنا مع الصديقين.. آمين.