فيها حاجة حلوة
على غير موعد، جاءتني الدعوة من السيد الفريق أول صدقى صبحى، القائد العام للقوات المسلحة، وزير الدفاع والإنتاج الحربى، لحضور احتفالية انتهاء فترة إعداد طلاب الكليات العسكرية، وهي الاحتفالية التي ننتظرها كل عام لنرى كيف صاغت العسكرية المصرية جيلا جديدا من شباب مصر.. كيف عبَرت بهم من الحياة المدنية إلى حياة المواجهة.. وكيف ابتنت جيلا جديدا من المقاتلين لينضموا إلى رفاقهم في درب الجهاد والكفاح والدفاع المقدس عن تراب الوطن؟
كان المشهد صحوا، نضرا، قويا، عزيزا.. شباب يشقون طريق المجد بعزيمة لا تلين، رجال رسموا أمامنا لوحات من الصمود والقوة.. جيل يرسم ملامح الغد بعيدا عن طنطنة المنافقين وصفقات التجار.. جيل يواجه الموت بصدور عارية وصيحات تزلزل الأرض من تحت أقدامهم.. ينشدون أغنية وطنية قديمة قدم الزمان والأيام والعصور.. أغنية طالما رددتها أجيال وسلمتها إلى أجيال.
تسعة وأربعون يوما هي المسافة بين حياة الترف وحياة الجندية، لا يمكن لمنصف أن يتجاهل صمودها وعزتها وإرادتها الحرة النبيلة، وطلاب أصبحوا بين عدد من ليالي العمل الدءوب وأيام الجهد المتواصل، إرادةً صلبة لا تلين، وعزيمةً قوية لا تهون، وسيفًا في مواجهة الباطل لا ينكسر ورمحًا يجوب السماوات بحثا عن عدو قادم.. تسعة وأربعون يوما هي الفارق الزمني بين أن تكون أو لا تكون، أن تصبح لا شيء، أو أن تكون كل شيء.
بين دهشة الحضور وانتباهة أولياء الأمور.. بين عازف للسلام الجمهوري ومردد لكلمات خالدة.. بين صبح ندى وفجر عفى.. بين إطلالة صبح وغدو شمس.. بين ارتدادة جفن وصحوة عين.. بين ليل أعمى وضحى كاشف عن كل نور.. بين أيادٍ تصفق وعيون تدمع.. بين شهداء تحت الطلب وأبطال ينتظرون الدور.. بين معلمين وطلاب.. بين التاريخ التليد والمستقبل الواعد؛ قضينا يوما من أيام مصر لنشهد تأهيل طلاب الدفعة ١١٣ من الكلية الحربية، وما يعادلها من الكليات العسكرية الأخرى.
هنا؛ ووسط اثنى عشر مليونًا.. هم سكان العاصمة المتخمة بالناس.. هنا؛ وفي نهايات شارع صلاح سالم.. هنا في الكلية الحربية مصنع الرجال.. هنا؛ وما أدراك ما هنا.. هنا لا صوت يعلو فوق صوت الوطن.. هنا لا مجال للسفسطة والجدال، حيث العمل ولا شيء غير العمل.. هنا عيون تسهر وقلوب تنبض ورجال يصنعون السد الأعلى لمواجهة الشيطان وكل شيطان.
على مأدبة الغداء التي شاركنا فيها أسرة مصرية أنتجت شابا يافعا من أوائل المتأهلين، سألت طفلا صغيرا يجلس بين شقيقته وأبيه: «ماذا تتمنى أن تكون»؟.. أشار بفخر يطل من عينيه إلى شقيقه الطالب المقاتل لؤى.. «أريد أن أكون لؤى»!!
على يمين المنصة، كان عرضا لـ «يوميات طلاب الكليات العسكرية»، وأمامنا طابور العرض حيا نابضا.. على الشاشة طلاب يحتلون مواقعهم بين النار..يطاردون العدو في صحراء جرداء وأمامنا طلاب يقفزون بين النار بخفة وحيوية، وكأنهم يمارسون لعبة محببة إلى قلوبهم.. على الشاشة يعبر الطلاب مستنقعات مخيفة، وفي طابور العرض طلاب معصوبو الأعين يفكون أسلحتهم قطعة قطعة ويعيدونها إلى سيرتها الأولى في دقيقة واحدة.
على يمين المنصة، أسرٌ جاءت من كل حدب وصوب.. من أسوان ومطروح.. من النوبة ومن الدلتا.. من القاهرة والإسكندرية.. تنطلق الزغاريد، إشارة أمهات تقفز قلوبهن فرحا لأبنائهن حماة الوطن وبناة المستقبل، وعلى مأدبة الغداء يحيط وزير الدفاع نفسه بأبنائه من الطلاب يحادثهم بالاسم وكأنه قضى معهم تلك الأيام الصعبة وصار بينهم هذا الود وتلك المحبة التي أعلنت عن نفسها في حوار أبوي نادر.
فيها حاجة حلوة.. تلك هي مصر بعيدا عن كل ما نمر به.. هذه هي مصر الأبية الشامخة.. هذه هي مصر بعيدا عن ظلمة المشهد الذي نحياه.. هذه هي مصر التي نتمناها عصية على الانكسار.. قوية في مواجهة الصعب.. قادرة على العبور من منطقة المخاض إلى ساحة القوة والعزة.. فيها حاجة حلوة تراها في عيون «الولاد».. فيها إرادة حديدية تشهدها في عيون الآباء والأمهات.. أخيرا … فيها حاجة حلوة.