القاهرة 77
هذه هى أرقام القاهرة عام ١٩٧٧م
تستقبل العاصمة ثلاثة ملايين زائر من الأقاليم يوميًا.. تضم أكثر من ١٥٪ من قوة العمل بمصر.. يقع بالقاهرة أكثر من ١٧٪ من حالات الزواج في مصر، و١٦٪ من حالات الطلاق، وبها أكثر من ٢١٪ من أطباء مصر، وفيها 1119 مدرسة ابتدائية، و433 مدرسة إعدادية، و142 مدرسة ثانوية، و70 مدرسة فنية، وفيها 263 فندقًا، تضم 9 آلاف غرفة تمثل 27٪ من فنادق مصر، وبالقاهرة 348 حنفية مياه مجانية، وبها تليفون لكل 30 مواطنًا، ومكتب بريد لكل 95 ألف مواطن، و159 مكتب تليفون، و168 ألف خط تليفون، وتضم 11530 جمعية أهلية، تمثل 20٪ من جمعيات مصر، ويسكن بها 23 ألف مدرس، و8751 عضوًا من أعضاء هيئات التدريس بالجامعات.
كان الحديث في ذلك الوقت عن ضرورة توقف المسكنات لعلاج أمراض العاصمة، لتبدأ الجراحات الضرورية لإنقاذها من الفوضى والانهيار.. ولم يكن الحديث بالطبع حول القاهرة وحدها، فقد شهدت هذه المرحلة نقاشات واسعة حول نقطة الانطلاق المصرية في عام 1980، وهو العام الذي حددته السلطات المصرية في ذلك الوقت للعبور إلى آفاق السعادة، والرحابة، والعيش الكريم، حيث سيمتلك كل مصري سيارة وبيتًا أنيقًا وعملًا يحيا منه حياة رغدة.
مضى أربعون عامًا، وما زلنا لم نبدأ الجراحة ولن نبدأها.. وإذا كانت السلطات في ذلك الوقت قد حددت عام 1980 للانطلاق، فإن سلطات اليوم تتحدث عن العام الذي نحياه في ضيق عيش، وحصار اقتصادي وسياسي وأمني، ليكون عام العبور إلى حيث أراد أصحاب عام 1977، ليكون سنة الحياة السعيدة.. يقولون إن عامنا الذي نموته ولا نحياه الآن، سيشهد انطلاقة لم تشهدها مصر من قبل.. يتحدثون عن بحار الغاز التي ستجود بها الأرض، ويتحدثون عن الصناعات التي ستنطلق لتنافس كبريات الدول، ويتحدثون عن زراعة ملايين الأفدنة.. في حين أن ما نزرعه غابات من الأسمنت فوق أرض الدلتا، في جريمة لم تشهد مصر مثيلًا لها طوال تاريخها.. ويتحدثون عن الاستثمار الذي سيتدفق بعد عرض التسريبات للمخالفين معنا سياسيًا، على اعتبار أن ذلك ميزة استثمارية لا يجدها المستثمر في دولة أخرى.
بحّ صوت العالم الجليل الدكتور "أسامة عقيل" خبير الطرق العالمي، من القول بإن الصمت على القاهرة أكثر من ذلك «جريمة»، وقدم مشروعًا واعدًا لإعادة النضارة إلى وجه العاصمة، فكان نصيبه عدة نشرات في الصحف ومجموعة من العبارات الرنانة، رددها مسئولون عن عظمة المشروع، ثم اتجه الحلم فورًا إلى أدراج الإهمال والصمت المخيب للآمال، رغم أن صيت المشروع وصل إلى الرئيس شخصيًا.
لم يكن الدكتور "أسامة عقيل" وحده، الحالم بوطن يستعيد أمجاده.. عشرات من خبراء مصر قالوا في لقاءات مع السلطات، وقدموا مشروعات عظيمة، غير أن كل ذلك لم يبرح الأدراج الخبيثة التي لا يخرج منها إلا كل رياء ونفاق.. نفس الخطاب الذي عشناه عام 1977 نعيشه بعد أربعين سنة بـ«التمام والكمال»، وذلك اتساقًا مع القول المصري المأثور: التكرار يعلم «الشطار» وليس «الحمار».
المقدمات لا تنبئ بنتائج عكسها أبدًا، فالمقدمات هى بذور لا تخالف طبيعة الطرح.. طرحها من جنس مقدماتها.. المقدمات السياسية لا توحي إلا بنتائج كارثية على البلاد، فالانفراد والاستفراد لا يؤديان إلى وطن يسع الجميع، والمقدمات الاقتصادية لا توحي إلا بنهش لحم ما تبقى من بسطاء تتسع رقعتهم لتغطي الوطن بأكمله، والحريات قبرت في مدافن النفايات والقمامة بغير رجعة، والطبقات الاجتماعية تتزحزح في هوة سحيقة تنبئ بما لا نتمنى أبدًا من صراع لن يسلم منه أحد.
وخلاصة القول، إن المراهقة السياسية تدفعنا إلى الحديث عن ماضينا التليد، ليكتسب الملك فاروق شعبيةً ما حصل عليها في حياته، ويطل علينا مبارك من شرفة عُليا لنتندر على أيامه الخوالي، ونعود إلى صورة عتيقة لترام الإسكندرية، ونحن في عصر القطار الطائر، وكأننا ندفن آلامنا في الماضي الذي كان.. شعوب لا ترى ملامح غدها، لا بد وأن تعيش في ماضيها، وشعوب لا ترى أملًا، تعيش الأمل في التاريخ، وشعوب تحاصر يوميًا في قوتها وعيشها وحريتها، لا بد وأن تتحدث عن بيت العز وشجرة العنب الوارفة الظلال، لتجتر الذكريات عندما كان لدينا ذاكرة وذكريات!!