رئيس التحرير
عصام كامل

«نوايا» لا تسند الزير


عندما ترفع والدتي يدها بالدعاء ليعطيني الله بقدر نيتي، فإن كلماتها تصيبني بالرهبة، فأنا أتمنى أن يعطيني الله بقدر كرمه وفضله و ليس بقدر ما يدور في نيتي وقلبي.


ورغم أن "النية" ليست مجسدة لنراها ولكن الخيال صاغها بحيث يمكن الوصول إليها (كجملة: وأنت دخلت في "نيتي"؟) كما قد تتلون فنشاهدها بيضاء أو سوداء مُصبغين عليها مختلف الصفات (نية صافية أو أخرى سوداء).. وقد أوضح ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد" بأن النية تتعلق بالمقدور عليه و المعجوز عنه بخلاف الإرادة فإنها تتعلق فقط بما يمكن القيام به.. وإذا استطاعت "النواة" سند الزير، فالنوايا لا تستطيع سند الدول.

عندما قال الإمام "النووي" إن النية هى "عزيمة القلب" فقد فتح لنا مساحة للخيال تجعلنا نتصور وجود "عزيمة العقل" القادرة على "هزيمة المشكلات" وتحقيق الأهداف ونقلها من خانة "النية" المجردة إلى خانة "الإرادة" الفعلية.

وليس من المنطقي أن نطالب بعض المسؤولين بقراءة التاريخ بينما نشاهدهم عاجزين أصلًا عن قراءة الحاضر إلا أن الأمل يبقى أن ينتبهوا يومًا لدروس الماضي التي تعطينا الفرصة لتجنب الأخطاء..

وقد انهار الوالي محمد سعيد باشا بالبكاء، بعد أن تدمرت مالية الدولة و تضرر اقتصادها نتيجة سلسلة من القرارات الخاطئة التي اتخذها وفي محاولة يائسة للتصحيح قرر تسديد مديونات الدولة عبر عرض ممتلكاته الشخصية للبيع في مزاد، ولكن لم تكن مشاعره الطيبة ونيته الصادقة كافية لحل الأزمة حتى إذا باع نفسه بجانب مجوهراته في المزاد.. وقد ذكر معاصرون له بأنه لم يهتم بشئون الحكم في أيامه الأخيرة قدر انشغاله بالتساؤل حول حكم التاريخ على أعماله.

عادة يلتف حول الحاكم فريقين إحداهما يدعمه بالنصيحة الصادقة وآخر لا يميل لإغضابه، ومن المحتمل أن أحد أعضاء الفريق الأخير قد ذكَّر الوالي بالحديث الشريف (إنما الأعمال بالنيات) في محاولة للتخفيف عنه وتبرير ضعف إرادته، ولكن من المؤكد أن أحدهم لم يجرؤ على تذكيره بحديث شريف آخر (إنما الأعمال بالخواتيم) وهو ما يجب أن يسمعه بعض المسؤولين لعلنا نلمس تغييرًا مفاجئًا في أدائهم، يجعلنا لا نضطر لقطع الطريق لنهايته انتظارًا لحكم التاريخ لذا علينا التذكر بأن الدقائق الأخيرة من المباراة هى الأكثر إثارة، ومشهد النهاية في الفيلم هو الأبقى في الذاكرة، والصفحة الأخيرة من الرواية لها بريقها الخاص.

لم ينقص الوالي "حُسن النوايا" ولكن نقصه "حُسن التخطيط"، وإذا كانت نيته الصادقة كافية حتى لا يصنفه التاريخ باعتباره "خائن" فإن سوء قراراته جعلت منه "خائبًا" فشل في النهوض بالدولة، لأنه لم يفهم أن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة.
الجريدة الرسمية