رئيس التحرير
عصام كامل

أكاد أسُبُ وألعَنُ !


أشار أحدث تقرير للبنك المركزي إلى أن إجمالي الودائع لدى الجهاز المصرفي سجلت نحو 2.202 تريليون جنيه، وهذا رقم غير مسبوق في تاريخ الودائع المصرفية المصرية، وقد سجل سبتمبر الماضي وحده زيادة بنحو 30 مليار جنيه، وقد أوضح البنك أن إجمالي الودائع الحكومية بلغ 1.375 مليار جنيه، منها 273 مليار جنيه ودائع بالعملة المحلية، ونحو 9.101 مليار جنيه ودائع بالعملات الأجنبية.


أضاف أن إجمالي الودائع غير الحكومية ارتفع خلال سبتمبر الماضي ليصل إلى نحو 826.1 تريليون جنيه، مقابل 803.1 تريليون جنيه في الشهر السابق، مشيرًا إلى أن إجمالي الودائع غير الحكومية بالعملة المحلية بلغ 496.1 تريليون جنيه.

واستحوذ قطاع الأعمال العام على نحو 7.42 مليار جنيه منه، والخاص على 3.289 مليار جنيه، والقطاع العائلي على نحو 155.1 تيرليون جنيه، وقال البنك إن إجمالي الودائع بالعملات الأجنبية بلغ 4.330 مليار جنيه، استحوذ قطاع الأعمال العام على نحو 35.17 مليار جنيه، وقطاع الأعمال الخاص على نحو 05.977 مليار جنيه، والقطاع العائلي على 9.211 مليار جنيه.

بعد ذكر هذه الأرقام الجافة نحلل الدلالة، فنجد أن الأموال التي أودعها عامة الشعب وصلت إلى نحو 826.1 تريليون جنيه، بمعنى أن الناس العادية - وليس كبار رجال الأعمال الذين يفضلون إيداع أموالهم بالعملة الأجنبية في بنوك خارجية – أودعت هذا المبلغ الضخم غير المسبوق، ومن هنا تفهم الحكومة ومحافظ البنك المركزي أن ذلك الشعب الذي يشكو الغلاء المر هو في الحقيقة شعب غني، بدليل أنه أودع، في الوقت الذي يشكو فيه، مبلغ غير مسبوق في تاريخ الإيداعات المصرفية، وبالتالي ينبغي عدم وضع شكوى الشعب من الغلاء في الحسبان، فهى شكوى الغني الذي يريد الاستفادة القصوى ليزداد ما يدعه من نقود في البنوك.

وهنا ينبغي أن نعيد إفهام هؤلاء السادة أن فهمهم خطأ ونظرتهم قاصرة، فأولًا ليس الشعب كله الذي وضع ذلك المبلغ الكبير وإنما جزء من الشعب، صحيح أنه ليس جزءًا صغيرًا لكنه يظل جزءًا من الشعب وليس الشعب كله، ولا يزال هناك أعداد غفيرة من هذا الشعب لا تعرف معنى كلمة بنك أو رصيد، وتعيش حياتها على الكفاف مكتفية بالتموين الحكومي الذي أغمِّهم وأهمَّهم وفاجأهم بارتفاع أسعاره، مما جعلهم لا يكادون يعيشون معيشة أشد الناس فقرًا وعوزًا.

ثانيًا عند تحليل النسبة التي أودعت أموالها للبنوك نجد أن عددًا غير قليل منها مضطر إلى إيداع تلك الأموال القليلة، فهم -على سبيل المثال لا الحصر- معلم أحيل إلى المعاش فصار معاشه الشهري لا يتجاوز لدى أكبر معلم في مصر 1500 جنيه شهريًا، لا يستطيع أن ينفق على احتياجاته هو الشخصية فما بالك بأسرته ومصاريف علاجه الخ، فأخذ هذا المعلم مكافأة نهاية خدمته الضئيلة جدًا التي لا تتعدى 20ألف ليودعها البنك بفائدة شهرية أو فائدة كل ثلاثة أشهر، ليستطيع من خلال هذه الفائدة أن يتحمل قليلًا عبء حياته التي صارت غير مطاقة، ويكاد يفكر في إنهائها بعد ظروف الغلاء الكبير لولا خوفه من الله وخشيته على أسرته.

ومن الفئات التي أودعت أموالها البنوك مضطرة أصحاب المعاشات سواء المتدنية مثل الصحة والتعليم وعمالة الخدمات، أو الكبيرة مثل معاشات قطاع البترول والطيران والكهرباء والجيش لكنهم كلهم يتساوون في مواجهة غلاء الأسعار بنسب تتباين وفق الدخل.

إذًا ما جعلهم يودعون أموالهم هو الاحتياج للفائدة بجانب المعاش، ذلك الاحتياج الذي زاد وصار غير مسبوق في هذه الآونة ليتساوى مع الزيادة غير المسبوقة في الإيداعات، ونجد أن هناك فئة أخطر وأعظم ضررًا في إيداعها وهى فئة صغار رجال الأعمال، وأصحاب المصانع الصغيرة والورش، هؤلاء الذين أغراهم سعر الفائدة على بعض الشهادات والذي وصل إلى 20% فوجدوا أن أعمالهم لم تعد تأتي بأرباح مناسبة، نظرًا للضرائب المتصاعدة والروتين القاتل وغلاء أسعار الطاقة التي يستخدمونها، فكان الحل الأمثل هو تصفية تلك الأعمال وإيداع الأموال في البنوك للتمتع بالعائد المربح في راحة ويسر، والخطورة هنا تكمن في أن ارتفاع الودائع في البنوك، يعد مؤشرًا على تراجع الاستثمارات، ولجوء الشركات والأفراد للطريقة التقليدية لجني العائد، عبر إيداعها في البنوك، وليس من خلال استثمارها في مشروعات. 

والأثر السلبي يتجلى في زيادة البطالة الناتجة عن تصفية الأعمال والضغط على الدولار ليلبي احتياجات كانت هذه المصانع الصغيرة تلبيها، والملاحظ أن ارتفاع الودائع لدى البنوك قد يؤدي إلى عجزها عن تدوير الأموال ودفع الفوائد، وتحمل أعباء إضافية، لكن في المقابل فإن ارتفاع السيولة يدفعها إلى التوسع في شراء أدوات الدين من الحكومة، وهى أذون وسندات الخزانة التي تطرحها وزارة المالية، بالتعاون مع البنك المركزي المصري، لتمويل عجز الموازنة، وأدوات الدين تعتبر ملاذًا استثماريًا آمنًا للبنوك، في ظل أوضاع استثمارية غير مستقرة، لكنها في نفس الوقت، مؤشر سلبي للدولة، يدفعها للجوء إلى البنوك لسد عجز الموازنة، بدلًا من البحث عن حلول خارج الصندوق لزيادة الدخل القومي، وتقليل عجز الموازنة والدين العام.

وما يجعلني أكاد أسب تلك الحكومة وألعنها لعنًا كبيرًا أني أتساءل ولا أجد إجابة صريحة، فإذا كانت مصر تمتلك كل هذه الأموال في البنوك، ولديها الأرض الشاسعة والأيدي العاملة والسوق الأكيدة، فلماذا لا يقوم المسئولون بدورهم في النهضة الحقيقية لمصر؟!

ولا نجد سوى الرئيس السيسي مع الجيش فقط، هم من يعملون بقوة وسرعة للنهوض بهذا البلد، في حين أن الحكومة المنوط بها هذا الأمر لا تقوم بواجبها، فلم نجد وزيرًا يقرر أن ينظر في فاتورة الاستيراد ويعرف منها احتياجات مصر الخارجية ثم يقوم بوضع خطة محكمة تقوم على الاقتراض من البنوك وعمل مصانع تنتج ما تستورده مصر تستوعب البطالة، وتخفف الضغط على الدولار والموازنة العامة وتربح البنوك من هذه المشروعات.

ولماذا انتظار المستثمر ونحن نمتلك ما يمتلكه المستثمر وهو المال، ونزيد بالأرض والأيدي العاملة والسوق؟ ومع العلم أن المستثمر الذي يأتي يقترض من بنوكنا ما يعمل به، أي إنه يأتي خالي الوفاض لدولة مغفلة فيأخذ أموالها ويعمل بها ويربح ثم يتركها عندما قد يشعر بالمحاسبة؟ ولماذا لم نجد وزيرًا يقرر أن يعمل في استيراد السلع الغذائية التي يحتكرها خمسة أو ستة من رجال الأعمال فيقوم الوزير باقتراض من تلك الأموال المكدسة ليستورد السلع ويبيعها بأسعار معقولة للشعب، مما يربح البنوك ويوفر السلع بأسعار مقبولة من الشعب، لماذا لا نستغل هذه الأموال الضخمة في تنمية مصر؟.
الجريدة الرسمية