«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. جـ2◄53
احتفاء واحتفالا بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبد الله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. نواصل القراءة في كتاب «زادالمعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية» الجزء الثاني.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...
حيث نتابع القراءة في الجزء الثاني من هذا «الكتاب القيم»...
وقف صلى الله عليه وسلم في موقفه، وأعلم الناس أن مزدلفة كُلَّها موقف، ثم سار مِن مُزْدَلِفَةَ مُرْدِفًا للفضل بن العباس وهو يُلبِّى في مسيره، وانطلق أُسامةُ بن زيد على رجليه في سُبَّاقِ قُريش.
وفي طريقه ذلك أمر ابنَ عباس أن يَلْقُطَ له حَصى الجِمار، سبعَ حصياتٍ، ولم يكسرها من الجبل تلك الليلة كما يفعلُ مَن لا عِلم عنده، ولا التقطها بالليل، فالتقط له سبع حصيات مِنْ حَصَى الخَذْفِ، فجعل يَنْفُضُهُنَّ في كَفِّهِ ويَقُولُ: (بأَمْثَال هؤلاء فارْموا، وإيَّاكُم والغُلُوَّ في الدِّين، فإنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الغُلُوُّ في الدِّين.
وفي طريقه تلك، عَرَضَتْ له امرأةٌ مِن خَثْعَمَ جَمِيلةٌ، فسألته عن الحجِّ عَنْ أبيها وَكانَ شَيْخًا كَبِيرًا لا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فأَمَرَهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهُ، وجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهَا وتَنْظُرُ إلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَصَرَفَهُ إلَى الشِّقِّ الآخَرِ، وَكَان الفَضْلُ وَسِيمًا، فَقِيلَ: صَرَف وجْهَهُ عَنْ نَظَرِهَا إلَيْهِ، وقِيلَ: صَرَفَهُ عَنْ نَظَرِهِ إلَيْهَا، وَالصَّوَابُ: أنَّه فَعَلَهُ للأمْرَين، فإنه في القِصة جعل يَنْظُرُ إليها وتَنْظُرُ إلَيْه.
وسأله آخرُ هنالك عن أُمِّه، فقال: إنَّها عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، فإن حَمَلْتُها لَمْ تَسْتَمْسِكْ، وإنْ رَبَطْتُها خَشِيتُ أنْ أَقْتُلَها، فَقَالَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلى أُمِّك دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (فَحُجَّ عنْ أُمِّكَ).
فلما أتى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، حَرَّك ناقتَه وأسرع السَير، وهذه كانت عادتَه في المواضع التي نزل فيها بأسُ الله بأعدائه، فإن هُنالِكَ أصابَ أصحابَ الفيل ما قصَّ الله علينا، ولذلك سُمِّى ذلك الوادى وادىَ مُحَسِّر، لأن الفيل حَسَرَ فيه، أى: أعيى، وانقطع عن الذهاب إلى مكة، وكذلك فعل في سُلوكه الحِجْرَ دِيارَ ثمود، فإنه تقنَّع بثوبه، وأسرع السَّيْرَ.
ومُحَسِّر: برزخٌ بين مِنَى وبين مُزدَلِفة، لا مِن هذه، ولا مِن هذه، وعُرَنَةُ: برزخ بين عرفة والمشعرِ الحرام، فبين كُلِّ مشعرين برزخ ليس منهما، فمِنَى: من الحرم، وهي مَشعر، ومُحَسِّر: من الحرم، وليس بمشعر، ومزدلفة: حرم ومشعر، وعُرَنَةُ ليست مَشعرًا، وهي من الحل، وعرفة: حِل ومشعر.
وسلك صلى الله عليه وسلم الطريقَ الوُسطى بين الطريقين، وهي التي تخرُج على الجمرة الكُبرى، حتى أتى مِنَى، فأتى جمرة العقبة، فوقف في أسفلِ الوادى، وجعل البَيْتَ عن يسارِه، ومِنَى عن يمينه، واستقبلَ الجمرةَ وهو على راحلته، فرماها راكبًا بعد طلوع الشمس، واحدة بعد واحدة، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حصاةٍ، وحينئذ قطع التلبية.
وكان في مسيره ذلك يُلَبِّى حتى شرع في الرمى، ورمى وبلالٌ وأُسامةُ معه، أحدهما آخِذٌ بِخِطام ناقته، والآخر يُظلِّلُه بثوب من الحر. وفي هذا: دليل على جواز استظلال المُحْرِمِ بالمَحْمِلِ ونحوهِ إن كانت قصة هذا الإظلال يَومَ النَّحر ثابتة، وإن كانت بعده في أيام مِنَى، فلا حُجَّة فيها، وليس في الحديث بيانٌ في أى زمن كانت. و الله أعلم.
فى رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى مِنَى وخطبته فيها
ثم رجع إلى مِنَى، فخطب الناسَ خُطبة بليغة أعلمهم فيها بحُرمة يومِ النحر وتحريمه، وفضله عند الله، وحُرمة مكةَ على جميع البلاد، وأمرهم بالسَّمْعِ والطَّاعَةِ لِمَن قَادَهُم بِكِتَابِ الله، وأَمَرَ النَّاسَ بِأخْذِ مَنَاسِكِهِمْ عَنه، وقال: (لَعَلِّى لا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِى هذا).
وعلَّمهُم مناسكهم، وأنزلَ المهاجرين والأنصار منازلَهم، وأمرَ الناسَ أن لا يَرْجعُوا بَعْدَهُ كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُهُم رِقَابَ بَعْضٍ، وَأَمَرَ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، وأَخْبَرَ أَنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ.
وقال في خطبته: لا يَجْنى جَانٍ إلا على نَفْسِه.
وأنزل المهاجرين عن يمين القِبْلة، والأنصارَ عن يسارها، والناسُ حولهم، وفتح الله له أسماعَ الناس حتى سمعها أهلُ مِنَى في منازلهم.
وقال في خطبته تلك: (اعبد وا رَبَّكم، وصَلُّوا خَمْسَكُم، وصُومُوا شَهْرَكُم، وأَطيعُوا ذا أَمْرِكُم، تَدْخُلوا جَنَّة رَبِّكُم .
وودع حينئذ الناس، فقالوا: حَجة الوداع.
وهناك سُئلَ عمن حلق قبل أن يَرمىَ، وعمَّن ذبح قبل أن يَرمىَ، فقال: (لا حَرَجَ).. قال عبد الله بن عمرو: (ما رأيتُه صلى الله عليه وسلم سئِلَ يومئذٍ عن شيء إلا قال: (افْعَلُوا وَلاَ حَرَجَ).
قال ابن عباس: ( إنه قيل له - صلى الله عليه وسلم - في الذبح، والحلق، والرمى، والتقديم، والتأخير، فقال: (لا حَرَجَ).
وقال أُسامة بنُ شريك: (خرجتُ مع النبى صلى الله عليه وسلم حاجًا، وكان الناسُ يأتونه، فَمِنْ قَائِل: يا رسولَ الله سعيتُ قبل أن أطوفَ، أو قدَّمت شيئًا أو أخرَّتُ شيئًا، فكان يقول: (لاَ حَرَجَ لاَ حَرَجَ إلا على رَجُلٍ اقترضَ عِرْضَ رَجُلٍ مُسْلِم وهُوَ ظَالِمٌ، فذِلكَ الذي حَرِجَ وهَلَكَ.
وقوله: سعيتُ قبل أن أطوف، في هذا الحديث ليس بمحفوظ. والمحفوظ: تقديم الرمى، والنحر، والحلق بعضها على بعض.
ثم إنصرف إلى المَنْحَرِ بمِنَى، فنحر ثلاثًا وستين بَدَنَة بيده، وكان ينحرُها قائِمةً، معقولةً يدُها اليُسرى. وكان عددُ هذا الذي نحره عددَ سِنى عمره، ثم أمسك وأمر عليًا أن يَنْحَرَ ما غبر من المائة، ثم أمر عليًا رضى الله عنه، أن يتصدقَ بِجلالِها ولُحومِها وجُلودِها في المساكين، وأمره أن لا يُعِطىَ الجَزَّار في جِزَارتِها، شيئًا منها، وقال: نَحْنُ تُعْطِيهِ مِن عِنْدِنَا، وقَالَ: (مَنْ شاءَ اقْتَطَعَ).
فإن قيل: فكيف تصنعون بالحديثِ الذي في (الصحيحي) عن أنس رضى الله عنه، قال: (صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الظهرَ بالمدينة أربعًا، والعصرَ بذى الحُليفة ركعتين، فباتَ بها، فلما أصبحَ، رَكِبَ راحِلته، فجعل يُهَلِّلُ ويُسَبِّحُ، فلما عَلاَ عَلَى البيداء، لبَّى بِهِمَا جَمِيعًا، فلما دَخَلَ مَكَّةَ، أَمَرَهُم أَن يَحِلُّوا، ونَحَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنِ قِيامًا، وضَحَّى بِالمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْن) . فالجواب: أنه لا تعارض بين الحديثين.
قال أبو محمد بنُ حزم: مخرج حديث أنس، على أحد وجوهٍ ثلاثةٍ.
أحدها: أنه صلَّى الله عليه وسلم لم ينحر بِيده أكثرَ مِن سبع بُدن، كما قال إنس، وأنه أمر مَن ينحرُ ما بعد ذلك إلى تمام ثلاث وستين، ثم زال عن ذلك المكانِ، وأمر عليًا رضى الله عنه، فنحرَ ما بقى.
الثاني: أن يكون أنس لم يُشاهد إلا نحره صلى الله عليه وسلم سبعًا فقط بيده، وشاهد جابر تمامَ نحره - صلى الله عليه وسلم - للباقى، فأخبر كُلٌ منهما بما رأى وشاهد.
الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم نحر بيده منفردًا سبع بُدن كما قال إنس، ثم أخذ هو وعلىّ الحربة معًا، فنحرا كذلك تمام ثلاث وستين، كما قال غَرَفَةُ بن الحارث الكِندى: (أنه شاهد النبى صلى الله عليه وسلم يومئذ قد أخذ بأعلى الحَرْبَةِ وأمر عليًا فأخذ بأسفلها، ونحرا بها البدن ثم إنفرد علىٌّ بنحر الباقى من المائة)، كما قال جابر. و الله أعلم.
فإن قيل: فكيف تصنعون بالحديثِ الذي رواه الإمامُ أحمد، وأبو داود عن علىّ قال: (لما نَحَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بُدْنَه، فنحر ثلاثِينَ بِيَدِهِ، وأمرنى فنحرتُ سَائِرَها) .
قلنا: هذا غلطٌ انقلب على الراوى، فإن الذي نحرَ ثلاثين: هو علىّ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم نحر سبعًا بيده لم يُشاهده علىّ، ولا جابر، ثم نحر ثلاثًا وستين أخرى، فبقى من المائة ثلاثون، فنحرها علىّ، فانقلب على الراوى عددُ ما نحره علىّ بما نحره النبىُّ صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: فما تصنعون بحديث عبد الله بن قُرْطٍ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، قال: (إنَّ أعْظَمَ الأيَّامِ عِنْدَ الله يَوْمُ النَّحر، ثُمَّ يَوْمُ القَرِّ). وهو اليومُ الثاني. قال: وقُرِّبَ لِرسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بَدَنَاتٌ خَمْسٌ فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْن إلَيْهِ بأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ؟ فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُها قَالَ: فَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ خَفِيَّةٍ لَمْ أَفْهَمْهَا، فَقُلْتُ: مَا قَالَ؟ قال: (مَنْ شَاءَ اقْتَطَع َ).
قيل: نقبله ونصدِّقه، فإن المائة لم تُقَرَّبْ إليه جُملة، وإنما كانت تُقرَّب إليه أرْسَالًا، فقُرِّبَ منهن إليه خمسُ بَدَنَات رَسَلًا، وكان ذلك الرَّسَلُ يُبَادِرْنَ ويَتَقَرَّبْنَ إلَيْهِ لِيبدَأ بكُلِّ واحدة منهن.
فإن قيل: فما تصنعون بالحديث الذي في (الصحيحين)، من حديث أبى بكرةَ في خُطبة النبىُّ صلى الله عليه وسلم يومَ النحرِ بمِنَى، وقال في آخره: (ثم إنكَفَأَ إلى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا، وإلى جُزَيْعَةٍ مِنَ الغَنَمِ فقسمها بَيْنَنَا) لفظه لمسلم.
ففى هذا، أن ذبح الكبشينِ كان بمكة، وفي حديث أنس، أنه كان بالمدينة.
قيل: في هذا طريقتانِ للناس:
إحداهما: أن القول: قولُ أنس، وأنه ضحَّى بالمدينة بكبشين أملحين أقرنين، وأنه صلَّى العيد، ثم إنكفأ إلى كبشينِ، ففصَّل أنس، وميَّز بين نحرِه بمكة للبُدن، وبين نحره بالمدينة للكبشين، وبيَّن أنهما قِصتان، ويدل على هذا أن جميعَ مَن ذكر نحر النبى صلى الله عليه وسلم بمِنَى، إنما ذكروا أنه نَحَرَ الإبِلَ، وهو الهَدْىُ الذي ساقه، وهو أفضلُ من نحر الغنم هناك بلا سوق، وجابر قد قال في صفة حَجَّة الوداع: إنه رجع من الرمى فنحر البُدن، وإنما اشتبه على بعض الرواة، أن قصة الكبشين كانت يومَ عيد، فظن أنه كان بمِنَى فوهِم.
الطريقة الثانية: طريقة ابن حزم، ومَن سلك مسلكه. أنهما عملانِ متغإيران، وحديثان صحيحان، فذكر أبو بكرة تضحيَته بمكة، وأنس تضحيتَه بالمدينة. قال: وذبح يومَ النحر الغنَم، ونحر البقرَ والإبلَ، كما قالت عائشة: ضحَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ عن أزواجه بالبقر، وهو في (الصحيحين).
وفى (صحيح مسلم): (ذبحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرةً يَوْمَ النحر).
وفي السنن: (أنَّه نحرَ عَنْ آلِ محمَّدٍ في حَجَّةِ الوَدَاعِ بقرةً واحِدَة).
ومذهبُه: أن الحاجَّ شُرِعَ له التضحيةُ مع الهَدْى، والصحيحُ إن شاء الله: الطريقةُ الأولى، وهَدْى الحاج له بمنزلة الأُضحية للمقيم، ولم يَنْقُلْ أحدٌ أن النبى صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابَه، جمعوا بين الهَدْىِ والأُضحية، بل كان هَدْيهُم هو أضاحيهم، فهو هَدْى بمِنَى، وأُضحيةٌ بغيرها.
وأما قول عائشة: (ضحَّى عن نِسائه بالبقر)، فهو هَدْى أُطْلِقَ عليه اسمُ الأُضحية، وأنهن كُنَّ متمتعاتٍ، وعليهن الهَدْىُ، فالبقرُ الذي نحره عنهن هو الهَدْىُ الذي يلزمُهن.
ولكن في قصة نحر البقرة عنهن وهن تسع: إشكال، وهو إجزاء البقرة عن أكثر من سبعة.
وأجاب أبو محمد بن حزم عنه، بجواب على أصله، وهو أن عائشة لم تكن معهن في ذلك، فإنها كانت قارنة وهُنَّ متمتعاتٌ، وعنده لا هَدْىَ على القارِن، وأيَّدَ قوله بالحديث الذي رواه مسلم من حديث هِشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة: (خرجنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مُوافين لهِلال ذى الحِجَّةِ، فكنتُ فيمن أهلَّ بِعُمرة، فخرجنا حتى قَدِمنَا مكَّةَ، فأدركنى يومُ عرفة وأنا حائضٌ لم أَحِلَّ من عُمرتى، فشكوتُ ذلك إلى النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: (دعى عُمْرَتَك وانْقُضى رَأسَكِ، وامْتَشِطى، وأهلِّى بالحَجِّ). (قالت: ففعلتُ، فلما كانت ليلةُ الحَصْبَةِ وقد قضى الله حَجَّنا، أرسلَ معى عبد الرحمن بن أبى بكر، فأردَفني، وخرج إلى التَّنعِيم، فأهللتُ بعُمرة، فقضى الله حَجَّنَا وعُمرتنا، ولم يكن في ذلك هَدْى ولا صَدقةٌ ولا صَوْمٌ).
وهذا مسلك فاسد تفرَّد به ابن حزم عن الناس. والذي عليه الصحابةُ، والتابعون ومَن بعدهم أن القارِن يلزمه الهَدْىُ، كما يلزم المتمتِّع، بل هو متمتع حقيقة في لسان الصحابة كما تقدَّم، وأما هذا الحديثُ، فالصحيح: أن هذا الكلامَ الأخيرَ من قول هشام بن عروة، جاء ذلك في صحيح مسلم مصرحا به، فقال: حدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع، حدثنا هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها... فذكرت الحديث. وفي آخره: قال عروة في ذلك: (إنه قَضَى الله حَجَّهَا وَعُمْرَتها. قال هشام: ولم يكن في ذلك هَدْىٌ، ولا صِيام، ولا صدقة) .
قال أبو محمد: إن كان وكيع جعل هذا الكلامَ لهشام، فابنُ نمير، وعبد ة أدخلاه في كلام عائشة، وكُلٌّ منهما ثقة، فوكيع نسبه إلى هشام، لأنه سمع هشامًا يقوله، وليس قولُ هشام إياه بدافع أن تكون عائشةُ قالته، فقد يَروى المرءُ حديثًا يُسنده، ثم يُفتى به دون أن يُسنده، فليس شيء من هذا بمتدافع، وإنما يتعلَّل بمثلِ هذا مَن لا يُنْصِفُ، ومَن اتبع هواه، والصحيح من ذلك: أن كُلَّ ثقة فمصدَّق فيما نقل. فإذا أضاف عبد ة وابنُ نمير القولَ إلى عائشة، صُدِّقَا لعدالتهما، وإذا أضافه وكيع إلى هِشام، صُدِّقَ أيضًا لعدالته، وكُلٌ صحيح، وتكون عائشة قالته، وهشام قاله.
قلت: هذه الطريقةُ هي اللائقةُ بظاهريته، وظاهرية أمثاله ممن لا فِقه له في عِلل الأحاديث، كفقه الأئمة النُّقَّاد أطباء علله، وأهل العناية بها، وهؤلاء لا يلتفِتُون إلى قول مَن خالفهم ممن ليس له ذوقُهم ومعرفتُهم بل يقطعون بخطئه بمنزلة الصَّيارِفِ النُّقَّاد، الذين يُميزون بين الجيِّدِ والردئ، ولا يلتفِتُون إلى خطإ مَن لم يعرِف ذلك.
ومن المعلوم، أن عبد ة وابن نمير لم يقولا في هذا الكلام: قالت عائشة، وإنما أدرجاه في الحديث إدراجًا، يحتملِ أن يكون من كلامهما، أو من كلام عُروة، أو من هشام، فجاء وكيع، ففصَّل وميَّز، ومَن فصَّل وميَّز، فقد حفظ وأتقن ما أطلقه غيره، نعم لو قال ابنُ نمير وعبد ة: قالت عائشةُ، وقال وكيع: قال هشامٌ، لساغ ما قال أبو محمد، وكان موضِعَ نظر وترجيح.
وأما كونهن تسعًا وهي بقرة واحدة، فهذا قد جاء بثلاثة ألفاظ، أحدها: أنها بقرة واحدة بينهن، والثاني: أنه ضحَّى عنهن يومئذ بالبقر، والثالث: دخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلتُ: ما هذا؟ فقيل: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه.
وقد اختلف الناسُ في عدد مَن تُجزئ عنهم البَدَنَة والبقرة، فقيل: سبعة وهو قولُ الشافعى، وأحمد في المشهور عنه، وقيل: عشرة، وهو قول إسحاق. وقد ثبت أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قَسَمَ بينهم المغانِم، فَعَدَلَ الجَزُورَ بِعَشْرِ شِيَاهٍ. وثَبت هذا الحديثُ، أنه - صلَّى الله عليه وسلم - ضحَّى عن نسائه وهن تِسع ببقرة.
وقد روى سفيانُ، عن أبى الزُّبير، عن جابر، (أنهم نحرُوا البَدَنَةَ في حَجِّهم مع رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ عشرةٍ) ) ، وهو على شرط مسلم ولم يخرجه، وإنما أخرج قوله: (خرجنا مع رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مُهلِّينَ بالحجِّ معنا النساءُ والوِلدانُ، فلما قَدِمنا مكة، طُفنا بالبيتِ وبالصَّفا والمروة، وأَمَرَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَ نشترِك في الإبلِ والبقرِ كُلُّ سبعةٍ منا في بَدَنة) .
وفى (المسند): من حديث ابن عباس: (كنَّا مع النبى صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضَرَ الأضحى، فاشتركْنَا في البقرةِ سَبْعَةً، وفي الجَزُورِ عشرة) . ورواه النِّسائى والترمذى، وقال: حسن غريب.
وفى (الصحيحين) عنه: (نحرنَا مع رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عامَ الحُدَيْبِيَةِ، البَدَنَةَ عن سبعة، والبقرةَ عن سبعة).
وقال حذيفةُ: (شَرَّكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حَجته بين المسلمين، في البقرة عن سبعة). ذكره الإمامُ أحمد رحمه الله.
وهذه الأحاديث، تُخَرَّجُ على أحد وجوه ثلاثة، إما أن يُقالِ: أحاديثُ السبعة أكثرُ وأَصَحُّ، وإما أن يُقال: عَدْلُ البعيرِ بعشرة مِن الغنم، تقويمٌ في الغنائم لأجل تعديلِ القِسمة، وأما كونُه عن سبعة في الهدايا، فهو تقديرٌ شرعى، وإما أن يُقال: إن ذلك يختلِفُ باختلاف الأزمِنة، والأمكِنة، والإبل، ففى بعضِها كان البعيرُ يَعْدِلُ عشر شياه، فجعله عن عشرة، وفي بعضها يَعْدِلُ سبعة، فجعله عن سبعة. و الله أعلم.
وقد قال أبو محمد: إنه ذبح عن نسائه بقرةً للهَدْى، وضحَّى عنهن ببقرة، وضحَّى عن نفسه بكبشين، ونحر عن نفسه ثلاثًا وستين هَدْيًا، وقد عرفتَ ما في ذلك من الوهم، ولم تكن بقرة الضَّحِية غيرَ بقرة الهَدْى، بل هي هى، وهَدْىُ الحاجِّ بمنزلة ضحية الآفاقى.
فى أنه لا يختص الذبح بالمنحر وحيثما ذبح في مِنَى أو مكة أجزأه
ونحر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِمَنْحَرِهِ بمِنَى، وأعلمهم (أن مِنَى كُلَّها مَنْحَرٌ، وأَنَّ فِجاجَ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ) وفي هذا دليلٌ على أن النحرَ لا يختصُّ بمِنَى، بل حيث نحر من فجاج مكة أجزأه، كما أنه لـمَّا وقف بعرفة قال: (وَقَفْتُ هاهنا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ). ووقَفَ بمزدَلِفَة، وقال: (وَقَفْتُ هاهنا وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ... وسُئل صلى الله عليه وسلم أن يُبنى له بمِنَى بِنَاءٌ يُظِلُّه مِنَ الحَرِّ، فَقَال: (لاَ، مِنَى مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ)..
وفي هذا دليل على اشتراك المسلمين فيها، وأن مَن سبق إلى مكان منها فهو أحقُّ به حتى يرتَحِلَ عنه، ولا يَمْلِكُه بذلك...