رئيس التحرير
عصام كامل

عصر الانبطاح


.‫.‬ والرسالة وصلتنى عبر الواتس آب، كما وصلت لآلاف غيري.. تقول الرسالة: «يجب أن نثق في قياداتنا، وفي نظامنا»، فالبعض تصور أننا سنمنح المملكة العربية السعودية جزيرتى تيران وصنافير، والحقيقة أن القيادة السياسية التي خطت هذه الخطوة، كانت تعلم أنها غير دستورية، وأن المؤسسات الأخرى في الدولة ستعوق ذلك وبكل قوة.. وبالتالي، فإن ما جرى ليس إلا ديالوجًا سياسيًا لا أكثر، وأن أرضنا عرضنا لن نفرط فيها.


السذج تناولوا الرسالة على اعتبار أنها نصر كبير، ولم يكن أيٌ منهم يعلم أن الحكومة كلفت فريقًا من أساتذة التاريخ ليجوبوا العالم بحثًا عن أي وثائق تثبت سعودية الجزيرتين، وتقديمها للمحكمة، وبالتالي فإن حكومتنا التي يجب أن نثق فيها فعلت عكس ما أراد لها المنافقون.. الذين أرادوا غسل وجه النظام وأدواته، فقاموا بصياغة وحياكة الرسالة التي سقطت مع أول جلسة من جلسات تيران وصنافير.

الوفد السعودي الذي زار القاهرة، ولم نكتشف قدومه إلا بالصدفة، عندما أصيبت طائرته بعطل كان على جدول أعمالهم تسلم تيران وصنافير، ثم الحديث بعد ذلك عن مصالحة أو حوار، وهو ما دفع حكومة شريف إسماعيل إلى تقديم اتفاقية ترسيم الحدود إلى برلمان «عبعال»، وهو البرلمان الذي لا نحتاج إلى عباقرة في قراءة تاريخه القريب، أو البعيد، إن كان له «بعيد».. البرلمان فيه أعضاء ألفوا الكتب، وأطلقوا التصريحات بسعودية الجزيرتين، كما أنه -وللحق- ليس فيه سوى عدد يسير ممن نثق في قدرتهم على تفهم الأوضاع.

تقديم اتفاقية ترسيم الحدود بكل ما فيها من ألغام وألغاز قبل النطق بحكم لن يقدم ولن يؤخر في فكرة تاريخية الأرض والسيادة، كان بمثابة إطلاق رصاصة على ما يمكن أن نسميه الخجل الرسمي، وقدم نموذجًا للقفز على عقول الناس، وإيمانهم ومعتقداتهم، وحرصهم على الفداء، من أجل الأرض.. الأرض التي لا تزال تتغذى من لحم المصريين، وآخر شهدائنا هو ذلك المصري الشرقاوي الذي راح ضحية مطاردة كفيل سعودي.. هل نحتاج إلى تاريخ أوضح من هذا الحادث المتفرد الموحى بأن دماء أولادنا لا تزال تروي هذه الأرض!!

إصرار الحكومة على غيها، وتماديها في هذا السعار غير المبرر، ومضيها قدمًا في أول نكسة لم يشهد العالم مثيلا لها، يؤكد من جديد أن المؤسسات شكل من أشكال الديكور ليس إلا، ومحاولة الحكومة الالتفاف على المؤسسية إزاء قرار يرتبط بالأرض، دليل جديد على حجم الانبطاح الذي نعيشه، وسط حالة من حصار الجوع، والخوف، والرعب، والاستفراد بالقرار، حتى لو كان مرتبطًا بالأرض.

نفس الشيء ارتبط في أذهان العامة بموقف مصر من التصويت على قرار وقف الاستيطان الإسرائيلي، وقد دافعت في الأسبوع الماضى عن مصر التي حاول البعض المزايدة عليها.. دافعت عن التاريخ، ولم أدافع عن جغرافية القرار الآني، لم أدافع عن موقف وزارة الخارجية من سحب القرار، وارتباط ذلك باتصال هاتفي جرى بين الرئيس السيسي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

موقف مصر وترددها جعل واحدًا في حجم عمرو موسى يصف ذلك بأنه غياب للوضوح، وللجرأة في اتخاذ القرار، ترددنا بهذا الشكل أهان التاريخ: تاريخ الدم والحرب والدمار الذي دفعناه ثمنًا للقضية.. لم يحدث في أحرج لحظات التاريخ المصرى، ولم يحدث حتى عندما قررت مصر الاتجاه صوب السلام.. اتجهنا للسلام إيمانًا بأننا يمكننا تحرير الأرض، في ظل معارك دبلوماسية نجحنا فيها، أيام أن كان بمصر دبلوماسية قوية وقادرة.

الاستسلام للسعودية بهذا الشكل المهين، وللإدارة الأمريكية بهذا الأسلوب، لا يوحي إلا بانبطاح وتذلل غير مبررين.. تسليم قرارنا مرة أخرى إلى واشنطن، أو الرياض، هو إعادة إنتاج لنظام مبارك.. ألم يقل الرئيس إنهم جربوا معنا كل شيء جربوا البترول.. جربوا الإرهاب.. جربوا إخضاعنا فلم نخضع.. أليس هذا مناقضًا لما نرى.. ولما نعيش.. أليس الإخوان هم المتورطون في بيع سيناء وتسليم حلايب؟ ألسنا نحن المتورطين حتى النخاع لتسليم تيران وصنافير.

لا أفهم أن تلاعبنا السعودية في أديس أبابا، تزور السد وتدعم السد وتسعى لتعطيش مصر فيكون الرد المصري استسلامًا وتسليمًا وبيعًا وخزيًا وعارًا.

وأفهم أن يخوض النظام معاركه بأدوات سياسية، ولكن ما السياسة في التفريط في الأرض؟ ما السياسة في التفريط في المواقف التاريخية.. التفريط في الثوابت ليس إلا انبطاحًا.. ولا أظن أن المصريين الذين يتحملون الجوع والفقر والمرض.. يتحملون غياب المشاركة، ويتحملون الاستفراد بالحكم، ويتحملون العوز، والحاجة، وغياب أساسيات الحياة.. لا أظنهم يتحملون مرة أخرى أن نعيش عصر التبعية.. ولمن؟ للسعودية؟ لواشنطن؟!!
الجريدة الرسمية