«المصريين الأحرار».. بين المؤامرة والمغامرة
«المصريين الأحرار» هو حزب الثورة، أو على أقل تقدير، هو أهم نبتة سياسية ولدت بعد ٢٥ يناير، ومعه ولدت أحزاب أخرى، بعضها ذاب في محيط الزحام، وأخرى ضلت الطريق، وفريق ثالث حل نفسه بنفسه، والبعض الآخر ارتضى حالة الحصار، التي يعيشها في إطار الواقع، الذي يؤكد أن الأرض لاتزال تراوح مكانها، بعد عدة انقلابات على المبادئ، وإعادة إنتاج الزمن القديم، خاصة وأن عملية النضج السياسي تأخذ بعض الوقت، وتحتاج إلى محيط ديمقراطي تنمو فيه.. وهو ما لم يتحقق حتى تاريخه.
راهن البعض على «المصريين الأحرار» في استنهاض الحياة السياسية، غير أن الواقع أثبت عكس ذلك.. تصور القائمون عليه أن صناعة معارضة داخلية في الحزب تقيه شر التدخل والتداخل، كما هو حادث في دول أكثر نضجا سياسيا، لكن الرياح جاءت بما تشتهي أنفس المتربصين به وبالحياة السياسية كلها، وتقسيم الحزب في أول تجربة ديمقراطية داخلية، عندما أعلن مجلس أمناء الحزب الذي يضم نجيب ساويرس، والدكتور فاروق الباز، والكاتب الكبير محمد سلماوي، وصلاح فضل الذي جاء خلفا للدكتور أسامة الغزالي حرب، وراجي سليمان- أعلنوا - أن الدعوة للمؤتمر العام لا تتم إلا بعد عرض المواد المقترح تعديلها من اللائحة على مجلس الأمناء، وبالتالي طلبوا تأجيل دعوة المؤتمر العام لهذا السبب.
حتى هذه اللحظة، فإن تصورات المتشائمين ذهبت إلى تأجيل المؤتمر العام، ومناقشة الأمر داخليا، إلا أن الواقع أفرز ما هو أسوأ من ذلك، وبدت هشاشة التنظيم في عدم قدرته على التعامل مع معارضة داخلية، وظهر «بيان المؤامرة» الذي ألقاه عضو بالمكتب السياسي يدعى نصر القفاص، حيث أطلق مصطلح «المؤامرة» على اعتراض مجلس الأمناء، فأعاد إلى الأذهان ذلك المشهد المروع الذي أخرجته لسنوات مباحث أمن الدولة قديما، عندما كانت تعيث في الأحزاب السياسية فسادا، مع علمنا التام بأن الأجهزة الأمنية المصرية لا ترغب في التدخل في مثل هذه الأمور، بعد تجربة تفخيخ الأحزاب طوال عصر مبارك.
بيان نصر «المؤامرة» صنع حالة مدهشة وغريبة داخل أروقة الحزب، وبدا أن الحزب يجري بسرعة الصاروخ نحو الهاوية.. تجارب عديدة قادتها «المباحث» قديما إلى ذات الطريق، إلى هوة سحيقة، لم تخرج منها أعتى وأقدم أحزاب مصر حتى اللحظة.. أيادٍ خفية تتشابه إلى حد التطابق مع نفس الأيادي القديمة العابثة بمقدرات الحياة الحزبية أيام مبارك، بدأت الدخول على المرمى؛ لتحقيق الهدف.
الصورة المثالية تقول: إن المؤتمر المنعقد سيناقش وجهة نظر مجلس الأمناء، ويتخذ فيها قرارا بحضور أعضائه. غير أن البوادر حملت سفاحا غير شرعي، عندما أطلت تصريحات للقفاص، متهمة مجلس الأمناء بأنه يتعامل مع الحزب على اعتبار أنه شركة.. وزاد الطين بلة، عندما قال أحدهم: إن أعضاء مجلس الأمناء لم يدفعوا اشتراكاتهم. وبالتالي، فإنهم غير أعضاء فيه.. نفس الإخراج وذات المشاهد رأيناها لسنوات في لعبة الأحزاب القديمة.
تعالت الهتافات: «يحيا الجيش». لنجد أنفسنا أمام تصورات بأن المجتمعين من حزب المصريين الأحرار إنما وصلوا إلى حدودنا مع العدو، ولم يكن ينقصهم إلا ترديد «الله أكبر فوق كيد المعتدي».. هكذا تحول النقاش السياسي إلى ما يمكن أن نسميه «كيد نسا» في «فيلم خالتي فرنسا» للمبدعة عبلة كامل، أو على أقل تقدير هو «بلا آفية» للفنان الراحل محمود شكوكو؛ ليدق المتربصون بالحزب أول مسمار في نعشه.
بذات الطريقة، تم تفخيخ الأحزاب المصرية القديمة، وبنفس الأسلوب أديرت.. التخلص من المعارضين أو من بوصلة الحزب الداخلية تحت دعاوى المؤامرات، وغياب الوطنية، ومجموعة من المصطلحات الرنانة، التي كانت تناسب أيام الاتحاد الاشتراكي.
لم يناقش المجتمعون وجهة نظر مجلس الأمناء، وقرروا فجأة إلغاء المجلس برمته، رغم أن ذلك لم يكن مطروحا على جدول الأعمال، ومضى المجتمعون إلى طريق كتابة النهاية غير السعيدة، لحزب راهن عليه المصريون، وتصوروا أن ظروف الولادة والنشأة ستجعل منه قاطرة الحياة السياسية في البلاد، بعد ثورة ٢٥ يناير، وبالفعل صوت المجتمعون على ذلك، وتخلصوا من مجلس الأمناء، الذي كان بمثابة ضابط إيقاع للعمل داخله، ومراقبا للأداء الحزبي، وكان هو حلقة النقاش التي تمنح الحزب ديناميكية، وتحميه من ويلات الانشقاق.
العمدة عثمان في فيلم «الزوجة الثانية» للعبقري صلاح أبو سيف، عندما أراد أن يتزوج من خادمته بعد تطليقها بساعات، عارضه البعض؛ لأن شهور العدة لم تنته، فقال قولته الشهيرة، والتي تحولت إلى أيقونة نرددها، كقول مأثور: «الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا».. المدهش، أن هذا الفيلم من إنتاج عام النكسة ١٩٦٧!.. هكذا فعل المجتمعون تحت نفس الشعار «الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا»!!
التصريحات التي تلت مؤتمرهم كانت تصب في نفس الاتجاه.. المؤامرة.. الخلاص.. الشوكة.. وحالة تعود إلى ستينيات القرن الماضي من الزعامة، والهتافات، والانتشاء بالتخلص من مجلس الأمناء، باعتباره معطلا للحياة السياسية في البلاد، وسببا للأزمات الاقتصادية الطاحنة، وليس ببعيد أن يكون متورطا في أحداث الكنيسة البطرسية.. وعلى الطرف الآخر؛ أصدر مجلس الأمناء بيانا، أكد فيه عدم شرعية ما حدث.. واللجوء إلى القضاء.
مربط الفرس من وجهة نظري، أن بداية النهاية كانت بفندق الماسة يوم ٣٠ ديسمبر من العام المنقضي ٢٠١٦، واحفظوا هذا التاريخ جيدا؛ فهو اليوم الذي سقطت فيه الفكرة، وانهارت القيمة التي أراد منشئو الحزب اعتبارها البوصلة، التي تحكم العمل داخل الحزب.. خبرتي التي امتدت لأكثر من عشرين عاما في الأحزاب السياسية، تؤكد أن السقوط يبدأ عندما تسقط الفكرة؛ بحثا عن دور، أو محاولة للعب دور غير الدور الذي يجب أن يقوم به أي حزب سياسي.
تقول الوقائع: إن النيران التي التهمت حزب الوفد كانت حكومية، وأن السجال بين أحمد مجاهد وإبراهيم شكري في حزب العمل كان نيرانا أمنية، وأن انقلابات حزب مصر كانت بقيادات شرطية، وأن محاولة الانقضاض على مصطفى كامل مراد في حزب الأحرار، كانت بتقرير مباحث قدم لمبارك، وتفخيخ مصر الفتاة كان لصالح قوى دولية بقيادة أمنية أيضا.. كل المؤامرات التي حيكت في التجربة التعددية الثانية كان البطل فيها «ضابط أمن دولة».
حصار الأحزاب، وضربها، وتفخيخها، وتفجيرها من الداخل، عادة ما يعتمد على عناصر مندسة؛ بعضها أكل على كل الموائد، وهم كثر في المصريين الأحرار، وبعضها لا دور له إلا الالتصاق بمن يراهم ذوي حيثية، وهم كثر في المصريين الأحرار أيضا.. وفي النهاية الخاسر مصر التي كانت تبحث بعد ٢٥ يناير بساعات عن أحزاب تستند إليها في استنهاض البلاد، وعدم الولوج إلى حافة الهاوية.. بحث عنها اللواء عمر سليمان فلم يجد إلا جماعة الإخوان، وكانت بعد ذلك كل المشاهد الدموية التي عشناها ونعيشها وسنعيشها، ما استمرت المؤامرة وبنفس السيناريو.
الذين تحدثوا عن المؤامرة لا يعلمون أنهم بدأوا مغامرة سيكون الضحية فيها صياغة بديل تعتمد عليه البلاد، عندما يحين الحين، خاصة أننا لسنا في موقف القادر على تحمل تبعات مغامرات صبيانية، أكلت من استقرار البلاد، ونهشت حياة العباد!!