رئيس التحرير
عصام كامل

الدولة العذراء!


منذ نشأة المجتمعات تكونت الجيوش لتحميها، ثم بدأت رحلة التوسع على حساب المجتمعات الأخرى، لتُصبح الأرض في النهاية لمن استطاع السيطرة عليها، ويتم تبادلها في الحروب بالقتال وفي السّلم بالمعاهدات، فتنشأ الإمبراطوريات وتتفكك الدول، وتُبنى الحضارات فوق بعضها البعض على الأرض ذاتها، لدرجة أن "الحق التاريخي" لأحدهم في الأرض قد يصبح تفسيره شديد التعقيد.


منذ ألفي عام تنازلت قرطاجة عن جزيرة صقلية لروما، فبدأت الممالك المجاورة تتجرأ عليها وتستبيح أراضيها، وبينما كان الشعب القرطاجي يصرخ مطالبًا حكامه بالدفاع عن الحدود، كان مجلس الشيوخ بروما يحرّض على تدمير المدينة، وبالفعل نجحت أطماع السياسيين، وانمحت قرطاجة بعد أقل من مائة عام من تنازلها عن الجزيرة لروما.

عبر التاريخ تنازلت العديد من الدول عن أراضيها بمقابل سياسي أو مادي أو غيرهما، وفي وجود مبرر منطقي لهذا الإجراء، أما التنازل "المجاني" رغبة في إعادة الحقوق لأصحابها – إذا اتفقنا على وجود هذه الحقوق أصلًا- فهو "سابقة" قد تجعل من صُناعها ومؤيديها"سوابق".. وهناك فريق يعشق "حدود الوطن" ويخاف "حدود الله" الذي ذكر "مصر"عدة مرات في الكتب السماوية، بينما فريق آخر يبدل مواقفه عشرات المرات لتعظيم"حدود مكاسبه" الشخصية فلا يهتم بالحديث بالحق أمام المسئولين حتى إذا جاءت أفعالهم على حساب الوطن وصرخات الشعوب.

ليس مهمًا أن نبحث في كتب التاريخ لنعرف أول من وطأت قدماه الأرض لنُعيدها لأحفاده، فقد أقامت مصر حضارتها ثم بدأ التاريخ، بينما كان ثلاثة أرباع العالم حولنا مظلمًا، وقديمًا حكمت مصر الحجاز وأجزاء من أفريقيا وآسيا ولم يحدث أن طالبنا بما كنا نمتلكه استنادًا إلى نظرية عودة الحقوق لأصحابها.. ولأن الحديث عن "حضارتنا" المشرقة لن ينتهي، فالأجدرِ لنا أن ننتبه إلى "حاضرنا" المرتبك، وألا نتنازل "طواعية" عن أرض نمارس عليها سيادتنا، وفي حالة كنا مضطرين لهذا، فلنشرح المبررات والدوافع المنطقية، ونوضح ما الذي يستفيده الوطن بعيدًا عن تفسيرات إعادة الحقوق التاريخية لأصحابها.

مطالبات الدول بالأرض استنادًا إلى "حقوق تاريخية" لا تُجدي نفعًا، وإلا عاد أهل فلسطين لديارهم، واستعاد المغاربة سبتة ومليلة من الإسبان، بعد أن يسترجع هؤلاء جبل طارق من بريطانيا التي لن تخوض مجددًا حرب كالتي خاضتها ضد الأرجنتين لتأكيد سيادتها على جزر فوكلاند.

لا يوجد من تنازل عن سيادته على أرض –تخصه أو يحتلها- تلقائيًا وبلا مقابل، فقد يكون الدافع لحظة "ضعف" تمر بالدولة أجبرتها على الموافقة أو احتياج لمقابل مادي أو سياسي ارتضاه الشعب، فمثلًا أمريكا أعلنت الحرب على المكسيك -في النصف الأول من القرن التاسع عشر- بعدما رفضت الأخيرة بيع كاليفورنيا ونيومكسيكو لها وفي نهاية الحرب حصلت أمريكا عليهما بسعر أقل من المعروض قبل اندلاع المعارك..

كما دفعت أمريكا لروسيا -في النصف الثاني من القرن التاسع عشر- نحو سبعة ملايين دولار لشراء آلاسكا، أما في النصف الأول من القرن العشرين فقد دفعت للدنمارك خمسة وعشرين مليون دولار لشراء "جزر العذراء" وهي تختلف عن "الدولة العذراء" التي يرغب قادتها في تزويجها قسريًا من ثري خليجي يتعجل توثيق العقود ويتمنى أن يكون زواجًا شرعيًا في القضاء أو نيابيًا في المجلس..

والأَجْدَى لقادة هذه الدول أن يستوعبوا أن الأرض تُدين بالولاء لمن يسيطر عليها ويحفظها، وإننا نمتلك من وسائل الدفاع التاريخية والدينية والدبلوماسية وغيرها ما يجعلنا أقوياء للدفاع عن مصالحنا، فقط نحتاج أن يستمع قادتنا إلى صرخات الشعوب وهي أكثر صدقًا من أطماع السياسيين.
الجريدة الرسمية