هذا هو موقفنا المخزي
كما رواها لي واحد من شهودها.. هو الكاتب الصحفى الكبير طاهر الشيخ، أحد شباب مصر الذين وهبوا أنفسهم للقضية الفلسطينية، وشاء حظه أن يكون قريبًا من صنع القرار الفلسطينى في أهم محطاته.. كان طاهر الشيخ شابًا مصريًا ذهب إلى بيروت لاستكمال تعليمه، والتقى هناك مع فصائل فلسطينية انضم إليها، وظل أهله يعتقدون أنه هناك يكمل مسيرة تعليمه، في حين أنه كان قد قرر استكمال مسيرة كل مصري عربي غيور على بلاده، وعلى قضيته الأم.. قضية أرضنا وشعبنا في فلسطين المحتلة.
بعد قرار الرئيس الراحل البطل أنور السادات بالسير صوب السلام طريقًا للتحرير والتحرر، حوصر أبناؤنا في كل مكان، وتعرض المصريون العاملون في الخليج ومعظم الدول العربية لإهانات متتالية، طوردوا، وقتلوا، وعذبوا ماعدا عاصمة وحيدة ظلت كما هي على عهدها ووعدها مع مصر والمصريين، هي مسقط عاصمة سلطنة عمان صاحبة المواقف الفذة والعبقرية إزاء أشقائها.. فطن السلطان الشاب قابوس بن سعيد أنه لا يجوز لأحد أن يزايد على مصر والمصريين، فهم الذين دفعوا الدم والمال، وكثيرًا من الاستقرار ثمنًا لقضيتهم وقضية العرب، ومن حق مصر أن ترى طريقًا مغايرًا مادام كان يؤدي إلى ذات الأهداف.
في ذلك الوقت كانت هناك أعداد كبيرة من المصريين في بيروت وتعرضوا مثل غيرهم لاضطهاد مبالغ فيه، ألقي القبض على أعداد كبيرة منهم وتعرضوا لاضطهاد كبير، علم الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بالأمر، أصدر تعليماته الفورية إلى واحدة من أهم الكتائب المقاتلة بتحرير كل مصري مقبوض عليه، جمعهم من الشوارع، ومن السجون، ومن كل مكان احتجزوا فيه، وقال في ذلك كلمات خالدة عن مصر والمصريين.
جمع الشباب والكهول وأمر بإكرامهم حتى يتصرف لنقلهم إلى بلادهم، كان "أبو عمار" مفتاح القضية وأُسها ومصدر عنفوانها وقوتها، يعرف جيدًا ما دفعته مصر وما لاقاه المصريون من ويلات الحروب، كان يدرك بحسه النضالي والبطولي أنه لا يجوز الاعتداء على مصري؛ لأن مصر هي القلب وهي الروح وهي الملاذ، وهي مفردات القضية وجوهرها، دارت الأيام ومرت السنون، وأدرك العرب أن ما رفضوه بالأمس كان هو الصواب وهو الطريق، وصلوا إلى قطار الحل بعدما تغيرت الدنيا وتبدلت المعادلات.
كانت أوامر "أبو عمار" واضحة: "اقتحموا أي مكان يحتجز فيه مصري وحرروه".. بعد تجميع المصريين ذهب إليهم "أبو عمار" في رسالة واضحة تحمل اعتذار قائد فلسطيني لشعب دفع من مقدراته الكثير من أجل فلسطين والفلسطينيين.. وقف أحد المصريين وقال لعرفات: "كما أن في كل قرية مصرية شهداء من أجل القضية، أصبح لك اليوم سفير في كل قرية من أجلك ومن أجل القضية".
أقول ذلك بمناسبة تلك الهجمة الشرسة من المملكة العربية السعودية وقطر وكل وسائل إعلامهم على موقف مصر من التصويت على قرار منع الاستيطان الإسرائيلي بالأرض المحتلة، أقول ذلك بمناسبة صعود نجم الخيانة العربية في الدوحة، أقول ذلك بمناسبة صهينة الأمة العربية على حصار آخر للقاهرة، أقول ذلك بمناسبة المزايدة على مواقفنا، فكاتب السطور عانى والده وهو شاب يافع من ويلات الأسر في ١٩٤٨م، وفي قريته أمهات كن يطلقن الزغاريد فور سماع نبأ استشهاد أبنائهن.
أقول ذلك ردًا على وهم القوة المالية لحقبة نفطية ما جلبت معها خيرًا للأمة، أقول ذلك ردًا على بيان العار الذي أصدره مجلس التعاون الخليجي تهديدًا لمصر والمصريين، وإساءة لنا ولتاريخنا ودعمًا لكل متصهين كذاب خائن وعميل امتطى الدولار خرقًا للقيم والمعاني والتاريخ والحضارة، أقول ذلك بمناسبة حصار أصدقاء تل أبيب من العرب لمصر في إثيوبيا، بزيارات لا تحرك أصبع قدم في طفل مصري وليد.
أقول وللتاريخ: إن مصر التي دفعت أزمانًا من استقرارها ومن اقتصادها لا تزال قادرة على العطاء، وسوف تستمر حتى تحرير الأرض وصون العرض في القدس الأبية، أقول وللتاريخ إن مصر أول دولة توقع سلامًا مع إسرائيل، لا يزال جدارها سميكًا قويًا قادرًا على الصد، أقول: إن مجتمعنا لا يزال صلبًا، صلدًا، قويًا في مواجهته وأكثر قدرة على التماسك من عواصم عربية تستثمر في تل أبيب أكثر من استثمارها في بلادها.
إن مصر العلنية التي وقعت أمام الكاميرات لا تمارس خيانة خلف الستار، لا تلتقي صهاينة ولا تتعاون معهم مثلما يفعل حراس البيت العتيق، ولا خونة العروبة في الدوحة، إن مصر التي قادت ستظل تقود، مصر التي دفعت قادرة على الدفع، قادرة على الصون، قادرة على أن تعيش عفيفة أبية قوية، مصر التي يحاصرونها لن تحاصر، مصر التي يعبثون بأمنها سيحتاجونها قريبًا ولن تبخل بما لديها.. قريبًا جدًا سيتعرض الجميع للتفكيك، ولن يكون لهم غيرنا، سندافع عن أمتنا مهما حدث، وسندافع عن شعبنا العربي في كل مكان، لأن هذا قدرنا، سندفع مزيدًا من التضحيات.. ولن نندم، ولن نحاسب، ولن نعاقب.
وأخيرًا أقول: لم تكن واشنطن حامية لهم، ولن تكون وكانت القاهرة ملاذهم وستستمر، كل من يحاول ثقب الجدار جدرانه مهلهلة، قابلة للانهيار، ولن يكون لكم غيرنا وساعتها لن يكون لنا قضية غير قضيتكم.. فهذا قدر الكبار!!