.. ورحل الثوري الصامد
بعيدًا عن الأيديولوجيات؛ كان واحدا من القادة الذين آمنوا بالإرادة الإنسانية في صناعة النصر، واستطاع بإرادته أن يهزم كل محاولات الاغتيال التي تعرض لها.. هزم بإرادته كل رؤساء أمريكا، وأخيرا مات على سريره ليس مسموما أو منفجرا أو مختطفا.. إنه «فيدل كاسترو» الزعيم الكوبي المحير.
كان يرى أن الإيمان المطلق أقوى من الرجال والعتاد، وكان يردد أن «الثورة هي صراع بين المستقبل والماضى»، وكان يقول «من لا يستطيع النضال من أجل الآخرين لن يتمكن من النضال من أجل نفسه»، وهو من المؤمنين بأن الأفكار لا تحتاج إلى دعم السلاح طالما حظيت بدعم الناس، وهو القائل «لا تخشوا الموت المجيد.. الموت في سبيل الوطن يعني الحياة».
ملأ الدنيا صخبا بتحدياته التي طالت كل ما هو رأسمالي، وظل مؤمنا بفكرته عن الشيوعية، وكان يراها لزاما لاستمرار الحياة، ولم يتصور يوما أن تنتهي أو تتلاشى.
لسنا بصدد تقييم للتجربة الشيوعية ولا المقارنة بين الأيديولوجيات، وإنما نرى أنفسنا وبعد رحيله عن عمر يناهز الـ ٩٠ عاما أمام نموذج بشري مبهر في إيمانه بما اعتقد فيه.. نموذج إنساني فذ وعبقري.. قوي وصلب.. نموذج لم يهن ولم يفرط طوال حياته رغم الحصار والتهديد والوعيد وكل ألوان الترهيب.
مات فيدل كاسترو على سريره بعد أكثر من ٦٠٠ محاولة لاغتياله.. ودع الحياة بعد أن حقق ما حقق، وأنجز ما أنجز، وترك نفسه لحكم التاريخ ومحكمة الزمان، وهو الذي كان يردد دوما «تستطيعون إدانتي غير أن التاريخ سينصفني ويبرئني».. بثمانين رجلا صنع ثورة مسلحة.. وبصوته الجهوري وفنه الخطابي صنع إضرابات واستطاع اجتذاب أعداد كبيرة من القوات المسلحة للانضمام إليه.. دخل العاصمة بثلاثمائة رجل فقط.. وأخيرا مات على سريره وكأنه بموته الطبيعي يحقق آخر انتصاراته على الأمريكان!!
اعتبر نفسه ملحدا، وقال إن دعوته لا تتعارض مع دعوة المسيح.. خاصم البابوية حتى اعترفت له بأن نداء يسوع لا يتعارض مع الشيوعية.. ساعتها سمح للبابا بزيارة كوبا قائلا: لم يكن ينقص البابا إلا أن يردد معنا «يا عمال العالم اتحدوا».. خاصم الرأسمالية منذ إيمانه بالشيوعية وحتى النفس الأخير.. ظل معاديا لكل ما هو رأسمالي إلا في فترات النجاح الثوري الأولى.. نافق الأمريكان حتى تمكن، ثم عاداهم إلى آخر العمر.
ولم يكن صدفة أن تعلن الشقيقة الجزائر الحداد الوطني لثمانية أيام، فقد كان كاسترو صديقا للمناضل الجزائري العظيم هواري بومدين، كما كان صديقا للرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، وهو الملقب بصديق الجزائر؛ حيث كان شديد التأثر بثورة الجزائر، ومن أكثر المؤيدين لها، وهو رغم ديكتاتوريته إلا أن الشيوعيين في العالم كانوا يرونه القائد الملهم والخطيب المؤثر والمناضل النموذج والثوري المتجدد.
وإذا كان الرجل قد رحل عن عالمنا يوم الجمعة الماضي، فإن السنوات القادمة قد تكشف الكثير من تفاصيل حياته الثرية بالأحداث والوقائع ليتحقق فيه ما كان يردده: «الناس يموتون ولكن أفكارهم تبقى».. مات كاسترو فهل تقوى أفكاره على الحياة؟!!