رئيس التحرير
عصام كامل

نسر حلق في سماء بائيسة !!


في غضون شهور قليلة بعد وفاة والديها جعلت منزلها مأوى للغرباء والمساكين وصارت تقبل كل من يقصدها وتقضي له حاجته، ولكن بدلًا من أن يزداد اشتياقها لدخول بيت للعذارى أمال بعض الأشرار قلبها للخطية بل صار بيتها مكانًا للفساد وتحولت زنبقة الحقل إلى حية سامة، زهرة أزهرت في الربيع وأثمرت في الصيف، ولما جاء الخريف جمعت أثمارها في أطباق من الفضة ووضعتها على قارعة الطريق، فكان العابرون من أبناء سدوم وعامورة يتناولون منها ويأكلون بنهم عسى أن تشبع شهواتهم!


ولما انقضى الخريف لم تجد سوى ثمرة واحدة أو أقل: بعض أنفاس متقطعة أبقاها لها الله لتعود إليها الحياة من جديد.. إنها بائيسة.

كم من مرة تعطرت وتكحلت لتدعو عشاقها إلى ولائمها وحتى تبيع جسدها بالخبز المعجون بالدموع والدماء.. كم من مرة كانت تنتشي وهي ترى الرجال يسكبون أنفاسهم المفعمة بسموم الخطية بين طيات أثوابها بل يضعون تنهدات أشواقهم في يديها ويحرقون أنفسهم بخورًا أمام تمثالها ثم يلقون بالدراهم تحت رجليها، وعندما تصب من عصير قلبها خمر شبابها كانوا يسكرون..

سمع آباء شيهيت بما حدث فحزنوا جدًا، وقضوا فترة في الصوم والصلاة من أجلها ثم طلبوا من القديس يحنس القصير أن يمضي إليها، وبالفعل أطاع، وإذ تهيأت لاستقباله، دخل وهو يرتل: "إن سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرًا لأنك معي"، وإذ بها تفاجأ برجل ليس كما اعتادت إنما يداه خشنتان، قدماه مُشقَّقتان، شعره أشعث، لحيته كثّة، ثيابه رثّة، غطاء رأسه بالٍ، عظام وجنتيه بارزة... كل ما فيه يشي بفقر مدقع، ولكن عيناه يشعّان فرحًا وسلامًا وطمأنينة، وصوته عميق أسيف، ترقّق من كثرة النُسك والصمت، ولكنه واثق حاسم، خطوته خفيفة، فقدماه بالكاد تمسّان الأرض، هو طيف يسري، بل قُل روحًا تحمل ظلًا تتقافز سعيًا نحو الانطلاق..

لحظات قليلة تمر وهي تتأمل وجهًا لم تألفه من قبل، وتراقب يده عسى أن تعرف أجرتها ولكن يصمت رجل الطهارة فلم يألف مثل هذا اللقاء من قبل!

وإن تكلم لم ينطق لسانه بغير أسى وها هي لحظات كأنها الدهر، ظل خلالها مصغيًا، مفكرًا، متأملًا، مصليًا حتى نطق لسانه موبخًا إياها.. فبكت بمرارة مناجية نفسها: لماذا صارت مستنقعًا خبيثًا تدب الحشرات في أعماقه، وتتلوى الأفاعي في جنباته.. فإن كانت حياتها كزورق صغير يحمل الناس إلى ميناء السعادة، فالزورق بلا ربان، وبعد قليل ستحطمه الأمواج، لأن بحر الشهوة لا يفتح بين أمواجه سوى القبور!

وبصوت جريج كصوت إنسان في النزع الأخير يمتزج الحزن والرجاء بين كلماته سألته إن كان لها توبة، ففتح أمامها باب الرجاء وسألها أن تترك هذا الموضوع وتنطلق معه إلى البرية.. فأخذها القديس بعيدًا عن سهام الأشرار التي تتربص بها هنا وهناك.. وهناك قدمت توبة وصلت من عمق قلبها فكانت الألفاظ تتصاعد من قلبها كأنها شعلات من نار التهمت كل فكر وعمل رديء من فكرها.. إذ مال النهار سألها أن ترقد في موضع بعيد، وإذ قام في نصف الليل رأى عمودًا من نورٍ نازلًا من السماء والملائكة تحمل نفسها.

وهكذا أصبح القديس كطائر مغرد في سماء القديسة ولم يسكت حفيف جناحيه حتى أحياها وأزال عن قلبها كل ضباب، وبهذا لم يضع اهتمام والديها بتربيتها هباءً وأيضًا ذكر الله لها خدمتها للفقراء والخبز المُلقى على وجه الماء كما أن الله لا يضيع تعب الخدام إذ كلمة الرب لا ترجع فارغة.

جدير بالذكر أن عمل الخير مثل الخبز الملقى على وجه الماء: لابد أن يعود إلينا، بائيسة صنعت خيرًا كثيرًا والله لم ينسه لها، تمامًا مثلما نقرأ في سير الآباء حين يتعرض أب مجاهد لتجربة وسقوط يقول كاتب سيرته "ولكن الله لم يشأ أن يضيع تعبه أو سابق تعبه" والله لا يمكن أن ينسى عمل المحبة لأنه –تبارك اسمه- ليس بظالم.. كما أنه ليس هناك مبرر للانحراف ولو كان الفقر، وإن كان البعض قد انحرف بالفعل نتيجة الحاجة، مثل النساء اللاتي يظلمن من أزواجهن بأي شكل من الأشكال، واضطررن لانتهاج سبل غير كريمة للحصول على احتياجات أولادهن، هذا دمرهن ودمر أولادهن.. ولكن الفقر ليس عيبًا.

وهكذا فرح القديس يوحنا ومجد الله مع شيوخ البرية الذين كلفوه بهذه المهمة.. حتى أنهم ويسمون العمل الذي قام به القديس "نزلة صاروخية" كمثل نسر انقض على طير ولكن ليستخلصه لا ليفترسه..
الجريدة الرسمية