"أفق آخر" معارضة المعارضة
هذا العنوان ليس على طريقة مَطْعم المَطْعم أو مجلة المجلة أو برنامج البرنامج، بل هو التعبير المُختصر عن صراع المعارضة لبعضها بعضًا، رغم أن العدو واحد وهو النظام الذى تعارضه.
عرفنا نماذج من معارضة المعارضة فى أكثر من بلد عربى، وقد يكون المثال السورى طازجًا حيث نالت المعارضة من بعضها بعضًا ضعف ما ناله النظام فى بعض الأحيان، خصوصًا بعد رسم تضاريس جديدة للمعارضات العربية بين داخل وخارج، ووطن ومنفى، ويسار ويمين، وراديكالى ومعتدل. وهذا النمط من المعارضة المركبة يبطل مفعول المقولة الشهيرة وهى عدو عدوى هو حليفى، فالأمر لم يعد كذلك، لهذا يمكن لِمُعارضة واحدة أن تجمع بين خصمين فى اللحظة ذاتها، الخصم التقليدى وهو النظام السياسى الذى تعارضه والخصم الآخر المُنافس.
لكن أغرب ما أفرزه التاريخ الحديث من المعارضات هو ذلك النمط المحترف الذى استمرأ الإقامة على الشاطئ الآخر وقد يعزف عن تولى السلطة حتى لو أتيحت له، لمعرفته بأن شعاراته تعجيزية، واليوتوبيا التى يبشر بها هى مجرد خيال.
لكن لماذا تَتَخَنْدَق المعارضات ضد بعضها بعضًا رغم وجود عدو مشترك لها؟ الإجابة السّريعة لأنها الأكثر تداولًا هى الاختلاف فى وجهات النظر، وبالتالى الاجتهادات المتباينة، لكن لعلم النفس السياسى والاجتماعى رأيًا آخر قد يكون أعسر وأكثر تعقيدًا من التحليلات السياسية الأفقية.
وهذا الرأى السايكولوجى يتلخص فى أمْرَيْن، أوّلهما: أن بعض المعارضات خصوصًا الحزبية وغير المُسْتَقلة تصاب بنرجسية سياسية تعميها عن أى شىء غير الطريق القصير والمُعَبد إلى السّلطة، وثانيهما: أن المعارضات داخل البلد الواحد تخشى من الذوبان والاندماج فى معارضة أكبر وذات قاعدة أوسع، لهذا تلوذ بمواقف تبدو راديكالية فى ظاهرها لكنها فى الباطن ذات شجون وشعاب أخرى. وما يغيب عن هذا النمط من المعارضات المشتبكة أن بحر السياسة حيتانُهُ من طراز آخر، ولا يأكل الكبير فيه الصّغير، بل يكون الاحتكام إلى الخطاب ومنطقه، ومدى مصداقية مَصْدَرِه خصوصًا فى زمن التحولات الموسمية السّريعة التى يصبح فيها اليسار يمينًا أو العكس فى الربع الساعة الأخير.
ولم يكن صراع المعارضات قبل الحراك العربى منذ عامين على هذا النحو من الحدّة والتّطرف ربما بسبب الناس، والمكوث والمراوحة على الهامش السياسى، لكن ما إن أسْقَط الحراك نظمًا ورؤساء حتى تضاءل اليأس، وأصبح ما كان نائيًا وبعيد المنال قاب تظاهرتين مليونيتين أو أدنى من قصر الرئاسة.
قد يرى البعض فى صراع المعارضات ذات العدو الواحد ما يذكّرنا بحكاية الأمهات اللواتى ادعين صَبيًّا، وكُل مَنْ قَبِلن بحكم القاضى أن يقسّم الطفل بينهن ليس بينهن الأم الحقيقية، لكن هذا التشبيه قد لا يكون دقيقًا فى زمن التبنى، وادعاء أبوة النجاح فى التغير وأمومَتِهِ أيضًا، لأن الفشل يتيم، فحين تنجح الثورات يتسابق من يَنْسِبونَ نجاحها إليهم وإلى أحزابهم، لكن عندما يحدث العكس يختلف المشهد جذريًا وهذا شأن بَشَريّ لا نملك إزاءه ما يُدين أو يُبَرر.
إن تضاريس المعارضات السياسية وخطوط طولها وعرضها ليست كتضاريس الخرائط، فثمة انحيازات وأجندات ومصالح قريبة وأخرى بعيدة، إضافة إلى أن المعارضة المهددة بالذوبان والاندماج تدافع عن حصتها حتى لو تطلب ذلك اختراع الذرائع، وادعاء المثالية والمعصومية.
أما من يحوّرون عبارة ديكارت أنا أفكر إذًا أنا موجود بحيث تصبح أنا أعارض إذًا أنا موجود، فهم يحوّلون النقد والاعتراض إلى مهنة.
نقلًا عن الخليج الإماراتية.