الإنسان ابن بيئته
كثير من الناس من يحدد شخصيته من نظرات الآخرين له طبقًا للعرف والتقاليد وليس كما يحب أن يكون فتحكيم عقل الإنسان تجاه ما يعانيه في حياته اليومية شىء ينمو بداخله منذ نعومة أظافره بالتربية والتوجيه، إنما لو ترك الإنسان لعواطفه العنان طبقًا لما استقر في أفقه الترقبية لخسر الكثير وربما خسر نفسه وهو على اعتقاد تام بأنه الرابح ويدفع حياته أحيانًا ثمنًا لتلك العقيدة.
فأعرف شابًا في أوخر العشرينات من عمره يقطن في منطقة شعبية كانت أمه تكسب قوت يومها بالسرقة والنهب وكل الأعمال التي تعتمد على العنف فهى تنتمى لعائلة لا عمل لها إلا البلطجة والسرقة، ولكن هذه الأم قامت بتعليم هذا الفتى حتى التحق بكلية الحقوق وأصبح محاميًا، ولكنه لم يستطع تغيير جلده ولا نعرف كيف نجح في كل مراحل تعليمه لأنه طول فترة طفولته وشبابه كان يسلك سلوك عائلته فقتل أكثر من مرة ولم تثبت عليه جرائمه وكان قاطع طريق ويخشاه الجميع واتهم في أكثر من قضية اغتصاب واعتقل وقتل داخل السجن ولا أحد يعرف إلى الآن سبب وفاته فلم يؤثر فيه التعليم وكان دائمًا ابن البيئة التي عاش فيها، فلو أراد أن يصبح شخصًا آخر لكان كما يريد ولكنه اختار أن يأخذ مثله الأعلى من بيئته التي نشأ بها.
التعليم لا يغير سلوك الفرد إلا إذا قرر الفرد نفسه أن يكون التعليم ثقافة وسلوكًا لحياته، فكثير هم المتعلمون ولكن نادرًا ما نجدهم مثقفين عقلانييــن.
ففى مسلسل رمضان "فوق مستوى الشبهات" ليسرا والذي تابعت حلقاته عن كثب كانت الأشخاص مرسومة رسمًا دقيقًا، فيسرا شخصة تحمل "دكتوراه" مزورة وتدعى أنها متخصصة في التنمية البشرية وهى مريضة نفسية فهى في قمة التناقض تقتل وتدبر جرائمها وكأنها عاتية في الإجرام وحاول المؤلف تبرير إجرامها إلى ما عانته في طفولتها داخل المدارس الداخلية وما لاقته من كره من قبل زميلاتها ولكن في رأيي كلها أسباب واهية، فالنفوس المريضة لها ردود أفعال مريضة والنفوس الراقية ردود أفعالها راقية حتى لو عاشوا مع الشياطين أنفسهم.
فمثلا الزوج الذي خانته زوجته مع صديقه في المسلسل وبدأ يشك في سلوكها ولكنه لم يكن له رد فعل عنيف ولا حتى بالكلمات تجاه زوجته الخائنة ولكنه أفاض بما يشعر به لأمه المثقفة المتعلمة والتي تعاملت مع الموقف بكل هدوء وسكينة حتى تبين الأمر وتأكد الزوج من خيانة زوجته الفعلية وكاد أن يقتل زوجته في لحظة غاب فيها العقل ولكنه سرعان ما تراجع ودعا أبويها المقيمين في دول الخليج لزيارة بنتهما في مصر بحجة أنها حاولت الانتحار وكذلك دعا صديقه الخائن وجهز لهم وليمة كبيرة وعرض أمامهم ما يثبت خيانتها بما لا يقبل الشك فيه وبعدها أمرها بأن توقع على ورقة بتنازلها عن كل حقوقها وتنازلها عن حضانة ابنها الرضيع بعد أن تأكد بالتحاليل أنه ابنه بالفعل وبكل هدوء حكم عقله وطلقها وغير مكان سكنه وبدأ حياة جديدة.
فما ذكرت هو نماذج وأشخاص موجودة في حياتنا وكلهم يشتركون في أنهم تعلموا وحصلوا على مؤهلات عليا ولكن منهم من فضل أن يكون جاهلًا بسلوكه ومنهم من حكم عقله في كل أمور حياته، فمهما فعلت بنا الدنيا فردود أفعالنا محسوبة لو حكمنا العقل لا العاطفة ونظرات الناس ولا العرف ولا التقاليد.. فحياتنا تتشابه رغم اختلاف بيئاتنا وأسمائنا، ولذلك لابد أن نستند إلى العقل دائمًا في كل أمورنا حتى يكون التعليم سلوكًا وثقافة ويصبح الدين معاملة.. فلنا الله هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون.