سقوط حر
تدور أحداث مسلسل (سقوط حر) حول (ملك) سيدة مصابة بمرض نفسي خطير يسمي “Catatonia” مما يسبب لها تشنجات في العضلات، حيث تواجه تهمة قتل زوجها وشقيقتها، وبعد إلقاء القبض عليها تقرر المحكمة دخولها مصحة للعلاج النفسي، باعتبارها تعاني أزمة نفسية حادة، غير أنها تتعرض للعديد من المشكلات داخل هذه المصحة، مما يسبب لها انتكاسات بعد تماثلها للشفاء أكثر من مرة، وتتوالى الأحداث إلى أن تظهر حقيقة مقتل زوجها وشقيقتها، وكيف تزوجت لتهرب من قسوة أمها المريضة بدورها بالتسلط (سهام)، بالإضافة لعلاقتها بابنها آدم، وهو مايتسبب في جزء كبير من مأساة ملك.
والمسلسل من تأليف مريم نعوم، التي سبق وقدمت العديد من المسلسلات التليفزيونية المهمة، مثل( سجن النسا، تحت السيطرة)، وهي أعمال تبدو أقرب للميلودرامية المشبعة بالمبالغات وعناصر الاكتئاب من خلال تشريح واقعي للنفس الإنسانية، حيث تركز على شرائح سلبية في المجتمع وتدفع بشخصياتها لأزمات تراجيدية يغلب عليها الحصار الاجتماعي حالك السواد، لتسقط من خلالها على ماساة المجتمع بأسره، لذا يبدو سقوط حر تحديدا تنويعة أخرى على مأساة (سجن النسا) حيث يشبه مستشفى الأمراض هذا السجن بكل أزماته ومعاناة أبطاله البشعة، وكأنه جزء ثان لهذه التنويعة الدرامية خصوصا مع تكرار البطلة (نيللي كريم)، وقد شاركها في كتابة السيناريو وائل حمدي.
كما يقدم المسلسل أيضا معاناة تشريحية للعديد من الشخصيات المصابة بأزمات نفسية داخل المصحة مثل(هدي) التي تعتقد أنها مكلفة بهداية الناس بعد اختيار الله لها، وتبدو مقتنعة تماما بما تقول بأنها النبية والمخلصة والمختارة بينما يتدلي الصليب من فوق صدرها.
كذلك شخصية قاتلة ابنها عمر رغم حبها الشديد له، تحت تأثير وهم شيطان يحرك أفعالها وعندما تجرأت وأمسكت بسكين لتقتل الشيطان فوجئت انها قتلت ابنها وقال الأطباء إنها تعاني من هلاووس وضلالات، ثم هي تأبي الخروج بعد التماثل للشفاء خوفا من مواجهة المجتمع والناس، وهناك من قتلت أمها ومن قتلت زوجها في دلالة على تفشي نماذج الجريمة الأسرية داخل أسوار المستشفي.
وفي حوار مدهش تتحدث قاتلة ابنها لملك قائلة( بصي ياملك.. مفيش حد أحسن من حد..لاتعايرني ولاأعايرك.. ده الهم طايلني وطايلك..كل واحدة فينا شايلة مصيبة فوق دماغها..اللي قتلت أمها واللي قتلت جوزها..بلاوي.. برة..كل واحد عاوز يبقي أحسن من التاني..مش عشان نفسه لا.. إنما عشان يعرف إزاي يعايرك..) وهو واحد من الحوارات المميزة التي كتبتها نعوم ووائل، لتنتقد بها على لسان أبطالها المرضي حالة أخطر خارج أسوار المستشفي من التهافت والصراع المحموم الذي يكشف عن آلاف المرضي الذين يقتلون بعضهم البعض بالغل والحسد دون أن يدينهم القانون.
كما أن المخرج شوقى الماجرى، لايقل حرفية عن المخرجة كاملة أبو ذكري التي قدمت العمل الأول حيث يحاصر المشاهد بزوايا عدسات مدير تصويره بأسلوب (كافكاوي) نسبة إلى (فرانس كافكا) رائد الكتابة الكابوسية، كما يلجأ لأسلوب مدهش في تقديم المشاهد من وجهة نظر الشخصية داخل اللقطة الواحدة بحرفية واضحة، حيث نري مثلا انعكاس الحالة النفسية على البطلة الرئيسية (ملك) التي تري هواجس وتسمع أشياء تسبب ردوود أفعال على تصرفاتها، وذلك على وجوه باقي المرضي حولها فتتحلق عيونهم بها وتتابعها، في حين تكون هي مشغولة بحدث آخر داخل نفس المشهد بردوود أفعال مغايرة قبل أن تنزوي كفأر مذعور في ركن من سريرها، وهو الأمر الذي يكشف إجادته أيضا لتوجيه الممثلين، مع تمسكه بكلاشيهات إخراجية وهي مشاهد البحر والمياه التي يفضلها في معظم أعماله مع توظيفها هنا في دراما نفسية كمعادل للشعور بالغرق والموت الذي يحاصر نفسية بطلاته، كما حدث في مشهد غرق سرير ملك أو مشهد اقتحام سور المستشفي لنري البحر في الخارج من وجهة نظرها.
كما تلعب الإضاءة (مدير التصوير بولندي يدعي أسبشك) والموسيقي (رعد خلف) والمؤثرات الصوتية عموما دورا رئيسيا في تكثيف الإحساس بالحالة النفسية للممثلين في تدفق محكم يعكس خبرات مايسترو صاحب أعمال كبيرة من نوعية (حلاوة الروح- اسمهان- هدوء نسبي-عمر الخيام) وغيرها.
ويبقي أداء الممثلين أحمد وفيق، الذي يبدو أنه يحمل أبعادًا خفية خلف شخصيته التي تبدو عادية، فهو زوج القتيلة الخائنة شقيقة المتهمة، وربما يكون هو المدبر الحقيقي للحدث، عن طريق تهيئة "ملك" للجريمة وشحنها لارتكابها بإيهامها بأنها مريضة نفسية، بالإضافة لتجسيده الصراعات النفسية الداخلية التي يعيشها في تذكره لحياته مع زوجته، دور جديد ومثير أيضا لعبه باقتدار.
كذلك تتالق صفاء الطوخى وأنوشكا، أحمد جمال سعيد، إنجي المقدم، بينما تزداد نيللي نضجا مع كل دور جديد حيث أدت شخصية شديدة التعقيد والصعوبة تنتمي للدراما النفسية بأسلوب علمي مبدع خصوصا مع إجادتها تقلص عضلات وجهها، وخطوط عنقها، وتشنجات عروقها، ومساحة الصمت التي تقول من خلالها الكثير بصورة تمنحها الاوسكار بلا منازع لو وجدت، وعلي الأقل فهي افضل ممثلة على مستوى كل الدراما الرمضانية هذا العام.