المولوية.. صلاة العشاق (قصة مصورة)
يعد مولانا جلال الدين الرومي، المجدد لمشرب التصوف الفلسفي، الذي تدور علومه في فلك العشق، ويهدف إلى نشر الحب بين البشر دون تمييز على أساس دين أو لون أو جنس، وهو ما جعل ملايين القلوب تستسيغ شرابه المُحلى بأنهار عسل الحب المصفى من أي أغراض دنيوية، والممزوج بأريحية العيش في كنف السعادة الروحية التي يهديها للإنسان حبه وبذله وعطائه لأخيه الإنسان.
تقوم فلسفة مذهب العشق لدىَ «مولانا»، على التخلي عن كل متعلقات الحياة الفانية ووأد النفس وأداء «صلاة العشاق» بإمامة الروح، وهى خطاب للإنسانية لسان حاله الأشعار التي تُردد في حفلات السماع، والدوران المُسمى «معراج الصوفي»، الذي ترفرف خلاله روح الدرويش المولوي في السماء لتجلب نفحات الرحمة الإلهية وتهديها لكل قلب يؤمن أن الحياة بدون حب.. فناء.. لا يستحق عناء العيش من أجله.
يخلع المولوي، كل ثيابه التي ارتكب في خندقها جريمة «العيش لحظة دون حب».. يغتسل كأنه وليد الحين.. انسلخت روحه عن النفس.. غادر كثافة الجسد وحل في شفافية كمال صفاء العشق.. حتى ذلك الدرويش الهائم في الدوران الذي صنع له مجسما صغيرا يؤنس وحشة قلبه، ويدل على تعلق روحه بطقوس طريقته.. حان وقت فراقه.. دورانه معراج خالي من كل الأغيار.. معراجه بصحبة روح متعطشة للقاء المحبوب.
تتوالى مراحل التخلي عن الأشياء الفانيات.. بدأ الدرويش ارتداء ثيابه البيضاء الدالة على تخلصه من النفس وطيها داخل «الكفن».. والمشيرة أيضًا إلى لباس الإحرام، لأن المولوي قبل أن يبدأ الدوران في حفلة السماع يؤدي ما يسمى «الطواف حول الذات».
يحضر في مخيلة الدرويش أثناء طوافه حول الذات، صورة الكعبة المشرفة.. ترسم روحانيات البيت الحرام على وجنتيه ابتسامة ملائكية تجعله يدور حول ذاته سبع مرات.. ينصت الجميع لابتهاله: أدور حول ذاتي سبعة لأرقى في صلاة العشاق.. كأني كوكب يسبح في فضاء الحب ملبيًا في طواف أنا فيه المُحرم وكعبة الحسن التي حولها يُطاف.. ذاتي.. أدور وأدور ومعنى الدور أني راجع.
انتهى الدرويش من تكفين النفس وها هو يُحكم موارتها تراب الجسد، فارتداؤه لهذا القميص إشارة إلى فراغه من دفن كل مسبب للكدر داخل قبر الجسد، وإيذانًا بقرب تلقى فيوضات تجليات العشق.. وفي هذه اللحظات يردد فرحًا: العشق حررني.. أصبحت مثل كل العاشقين سيد.. وظل فاقدو الحب عبيدا.. العشق أخرج روحي من غياهب ظلام بئر النفس.. أمسى فضاء الكون أمام رحاب روحي.. كالعدم.
يهندم المولوي «طربوشه» المصنوع من جلد الإبل.. يضعه فوق رأسه شاهدًا على ذلك القبر الذي وارى فيه النفس.. يصيح الجميع نشوة: بالأمس كانت في هذه الأجساد نفوس تدعونا إلى الكره.. والآن لا نفس ولا جسد.. فقط روح وقلب.. عشق وقرب.. لقاء وأنس.
يصف مولانا جلال الدين الرومي، لحظات السعادة التي يشعر بها العاشقون قائلًا: «إن الأرواح التي تكسر قيد حبس الماء والطين وتتخلص من حيزها الضيق تكون سعيدة القلب.. ترقص في فضاءات عشق الحق.. تكون كالبدر في تمامه.. الأجساد الراقصة لا تسأل عن أرواحها ولا تسأل عما ستتحول إليه».
طافت بقلبي ومضة من نور عشقك.. هدهدت وجداني.. صبت على نيران شوقي مًاء منعشًا.. اشتد ولعي.. جمعت كل العاشقين في صورتي: أنا العالم والعابد والزاهد.. أنا الشيخ والقس والحاخام.. أنا كل عاشق في السموات والأرض.. بل أنا قبلة المحبين وسلطان دولة العاشقين.
العشق سر لا يباح به.. فماذا عساك أن ترى من جسد بالي.. قف مثلنا في حضرة المعية صامتًا.. وحين يستوي نورك وظلامك سيسمع قلبك من يناديه: استقم عاشق الجمال فإن معراجنا أمرًا ثقيلًا.. واذكر اسم الحبيب وتبتل بقولك «الله» تبتيلا.. امتثل في حضرتنا خاشعًا.. متأدبا.. إذا ما رمت وصلًا وأنسًا جميلا.
قبل الخروج إلى محفل السماع يتلو الجميع فاتحة الكتاب.. يبتهلون إلى الخالق بالأدعية.. يتضرعون إليه كي يعيد إليهم زمان وصلهم.. في إشارة روحية إلى قرب انغماس أرواحهم داخل سبحات بحور نور العشق.
حين يشع في قلبك كوكب.. تختبئ فيه السموات السبع.. وحين تفيض عيناك بأنهار من الدمع.. أعلم أنك ذبت في بحر العشق.. لم يبق كفر ولا إيمان.. شك ولا يقين.. لم يبق منك سوى عاشق.. داخل عشق.. حول معشوق.. حينها أبدأ دورانك وأرتقي.
قائد محفل السماع في أي زمان ومكان هو خليفة مولانا جلال الدين الرومي، وفي فلسفة الطريقة المولوية يمثل الشمس.. نقطة الارتكاز التي يدور حولها الدراويش عكس عقارب الساعة في إشارة إلى أن المولويين «كواكب سماء العشق» يحتضنون الإنسانية كلها بحب.
يصطف الدراويش حول شيخهم.. يبدءون حركة دورانهم ببطء.. واضعين أيديهم فوق صدورهم مجسدين الإشارة إلى وحدانية الخالق والهيام في ذكره.. ثم يومئون إلى شيخهم بتحية الأدب والإجلال والتقدير.
لأن كل شيء في هذا الكون يدور، لذلك يهفو الدرويش المولوي إلى الاندماج والتناغم مع جميع المخلوقات في حركة دورانها.. وحين يصل الجميع إلى مراتب الكمال الروحي، يأذن لهم خليفة «مولانا» بالدوران.. لتبدأ رحلة السمو إلى عوالم الصفاء، بقيادة القلب ومطية الروح.
إيمان الدرويش بالغايات النبيلة لتجربته الروحية، وانغماسه الكلي في بواطن سحائب النور، هو ذلك الباعث الذي يحمله على الدوران دون خشية السقوط على الأرض، وهذا الإيمان لا يكتمل إلا بعد تحرير الروح من سجن الجسد الفاني.. حينها يتمكن المولوي من التحليق بانسيابية في عوالم العشق.
لكل حركة في «صلاة العشاق»، دلالات معينة.. بسط كف اليد اليمنى جهة السماء يشير إلى تلقى المولوي نفحات الرحمة الإلهية.. بسط كف اليد اليسرى جهة الأرض تعنى إهداء ما ظفر به من نفحات إلى الإنسانية.
العشق يسمو بالروح.. حتى الجسد الترابي ينقيه من العيوب ويعيده من عالم الفناء.. نغمات العشق يرقص على عذوبتها كل شيء.. الأفلاك ترقص.. جذوع الأشجار ترقص.. الفروع.. الأوراق.. الماء في السحاب.. في البحار.. في الأنهار.. الحصى في الجبال.. كل الأحياء والأموات خفوا وبدءوا في الرقص.. لقد سادت دولة العشق العوالم فبدلت كل الأحزان فرحا.
العشق ينقي الإنسان من عيوبه.. يرفعه إلى آفاق الحرية.. يهب له مئات الأجنحة.. كل جناح يخرجه من دوائر نوارنية ليدخله في أخرى أشد وهجًا ونورانية.. في هذا المقام الزهاد ينطلقون على أقدامهم خائفين.. أما العشاق فأسرع طيرانًا من البرق والهواء.
يصف «مولانا» تلك اللحظات المقدسة بقوله: «حين تكون أنوار الضراعة ملهمة يجب أن تُقضي بكمال الصمت والهدوء المقدس.. وإن تضرعاتنا وقت مؤثر لأن وجودنا يكون في خلود وصفاء.. وذلك وقت أن يطير المتضرع في السموات بأجنحة الكلام المقدس، منطلقًا إلى حيث مقام حقيقة الحياة والكائنات إلى حيث تحيط به هالة نور.. وهذا الضرب من أفراد الناس يظفرون بمقام نسميهم فيه أرواحًا مجردة، ومكانهم هو عالم الغيب».
فناء المحب في المحبوب هو عين البقاء.. وعند ولوج الروح إلى عتبات دولة العشق يدخل العاشق في حياة جديدة تكُشف له فيها الأسرار.. يغيب عن الوجود دفعة واحدة.. تنمحي صورته في أنوار المعشوق.. تؤجج نار العشق روحه، ويغدو قلبه مشبعًا بالعشق.. وهنا يظهر المحبوب ويختفي المحب.. لأن الاختفاء مع وجود المحبوب أفضل.
أدرك العشاق غايتهم.. عادوا من معراجهم، ولسان حالهم ينشد: كسرنا قيود النفس.. حررنا الروح من سجن الماء والطين.. تخلينا من عوالق الدنيا فنلنا وصالًا وقربا.. خالطنا العشاق وحين شربنا من الكأس عزفنا أنشودة الناي وأدينا صلاة العشاق.. درنا في بهاء الأنوار.. شدونا في سماء الحب قصائد عشق أطربت الأفلاك والمجرات.. ومن جديد عدنا إلى الأرض نطرق أبواب القلوب: هلموا نجعل الحب أرضًا تُقل وسمًاء تُظل.