عن التسريب سألوني
يخطئ من يتصور أن التسريب أمر غريب أو مدهش أو شاذ على المجتمع المصري، ذلك المجتمع الذي يعتبر التسريب منهج حياة. تستطيع أن ترى التسريب في كل واقع الحياة المصرية.. خبر اعتداء أولياء أمور على مراقبي الامتحانات في مدن وقرى ونجوع من أجل منح أبنائهم فرصة للغش هو أمر طبيعي ويتسق مع واقع الحياة المصرية.. نبأ استخدام أحد أولياء الأمور لمكبر صوت أمام إحدى اللجان في لفتة تمنح الحق في المساواة مفهوما جديدا هو أيضا أمر طبيعي ويتسق ومفاهيم الفهلوة والحياة المصرية.
أبناء الضباط ضباط وأبناء القضاة قضاة، وأبناء الإعلاميين إعلاميون وأبناء أساتذة الجامعة معيدون وأبناء الأطباء أطباء وأبناء المهندسين مهندسون.. هذا النموذج يرغب في أن يفرض المعادلة على الجميع ليبقى أبناء الفلاحين فلاحين وأبناء العمال عمالا وأبناء المهمشين مهمشين.. وهذا النموذج يحتاج إلى من يكسر قواعده ويحطمها ويقفز عليها ليدخل إلى دائرة أخرى.. أبناء الفلاحين يخطط أباؤهم في كسر الاحتكار.. احتكار المواقع والأماكن.. من حقهم أن يحلموا بنجاح خططهم للتسرب إلى مناطق أكثر أبهة في المجتمع.. مناطق أكثر حظوة بين الناس.. أماكن أكثر أمانا في سلم المجتمع.
انقلبت الدنيا رأسا على عقب ليس ضد تسريب امتحانات الثانوية العامة ولكن ضد قفز الطبقات المهملة أو محاولتها للقفز خروجا من واقع أليم لابد وأن يعيشوه، إذ إن نجاحهم في تحطيم النموذج قد يزاحم بقية الطبقات التي تمارس التسريب وفق شعارات القوة والهيمنة والجبروت.
تحدث خبراء عن انهيار القيم والأخلاق والتغيير الحاصل في طبقات المجتمع الراغبة في القفز خارج معادلتها المرسومة لها غير أن هذا يناقش بمصطلحات جوفاء لتفسر إبطال المحاولة الشريفة للخروج من القاع.. لا تفسر كيف يصبح بقدرة قادر ابن القاضي قاضيا وابن الصحفي صحفيا وابن الطبيب طبيبا وابن الأستاذ أستاذا.. لا تقدم دليلا واحدا على أن جينات الضباط تنحصر في فئات دون غيرها وجينات الدبلوماسيين لا تفارق عائلاتهم.
هذا النقاش العقيم يبتعد كثيرا عن فكرة المساواة بل ويطاردها ويعاندها ويقاومها ويحاول الوقوف ضد انتشار عدواها بين الجماهير العادية التي يجب أن تبقى في ذات المساحة العادية.. طبقات مهمشة لا تقوى على اللحاق بغير النموذج المرسوم لها إذ كيف لابن الفلاح البسيط أن يصبح ضابطا أو أستاذا أو قاضيا؟!
ذات الفكرة تماثل حديث الشباب عن نموذج ديمقراطي يتساوى فيه الأغنياء والفقراء في الفرص والأمل والحلم.. هذا النموذج الذي يتم تشويهه بآلة عنيفة يمتلكها أصحاب بزنس الديكتاتورية.. يخلطون بين الديمقراطية وبين الفوضى لدرجة أن الهجمات التي تتلقاها ثورة ٢٥ يناير دفعت بمن قادوها أو تحركوا فيها إلى الاختفاء وعادت وجوه الماضي تلمع من جديد تلتقط الصور فوق أشرف المواقع وأنبلها في حين يؤدب كل من صدق بالنوم على البورش.
كيف تسرب لصوص الأمس إلى صدارة المشهد.. أليس هذا تسريبا مفعما بالحيوية والقوة والمبالغة؟.. أليس هذا تسريبا لقيم الانتهازية والاستغلال واللصوصية؟.. أليس هذا إعادة لإنتاج أسوأ ما في النموذج الديكتاتوري؟.. ومع فداحة الثمن وفساد المعنى لم يتحرك خبير ليحادثنا أو يناقشنا فيما آلت إليه وأدت إليه آلة التسريب الجهنمية عابثة بما هو أهم من درجات الثانوية العامة أو حتى شهادات الجامعات في أعلى مراتبها.
التسريب طال كل شيء وانغمس داخل كل معنى، وأصبح نموذجا هاديا للكبار ومنغصا للمهمشين، التسريب طال الغذاء والدواء.. الماء والهواء.. طال الحكومات والبرلمانات.. طال الرأس والجسد فلماذا ننهار عندما يصل إلى القدم؟!