استراتيجية الشد العكسى
ما يسمى "قوى الشد العكسي".. هو التعبير الأكثر تداولاً اليوم، بين الأطراف السياسية المتنازعة، ورغم كل النتائج السلبية والكارثية المترتبة على هذه الديناميات المضادة للتقدم والنمو، فإن هناك ما هو أقسى وأشد خطورة وهو النمو العكسي.
فالشد يأتي من الخارج ويرتبط بجهة أو طرف، يحاولان إعاقة التقدم إلى الأمام، سواء بوضع الهريّ الغليظة في العجلات أو في تعطيل مفاعيل الحراك، لكن النمو العكسي أو المضاد يأتي من الداخل، وله تركيب بنيوي يهدد النسيج برمته، وهو أشبه بدوران عقارب الساعة إلى الوراء بانتظام.
وهذا ما يغيب عنا أحياناً.. عندما نتصور أن للتقدم قوانين تضبط إيقاعاته، وأن للتخلف حالة من العمى أو الفوضى التي لا تقبل القياس، فالتخلف له متوالية متسارعة، بحيث يتضاعف يوماً بعد يوم، لأن الهدم في كل شيء أسهل من البناء، وما يشيّد في أعوام قد يتحول إلى أطلال في أقل من دقيقة.
لكن كيف سيكون الحال إذا تحالف الشد العكسي مع النمو العكسي أو المضاد؟، وأية هاوية سحيقة تتربص بضحايا هذا التحالف؟.
لقد أنفق العرب المعاصرون ثروات فلكية وطاقات ووقتاً بلا حدود، من أجل اللحاق بالعصر، وتسديد مديونيات التخلف والبطالة العلمية، والآن ثمة قوى تشدهم إلى الوراء، وإلى ما قبل القرن التاسع عشر، يضاف إلى هذه القوى التقليدية ما يرزح تحته ملايين العرب من الأمية المزدوجة والفقر والنمط العشوائي للحياة، فالعشوائيات ليست مجرد أحياء تتراكم بلا ضوابط، إنها ثقافة وأنماط سلوك أيضاً.
إن كل ما كتب ونشر حول الحداثة هو الآن تحت مجهر الاختبار العسير، لأن على من بشروا بها أن يدافعوا عن منجزاتها حتى لو كانت في طور أولي وتعاني من بعض الفجاحة.
وإعادة هذا الواقع إلى الوراء قرنين أو أكثر تتطلب قائمة من الوصفات، في مقدمتها التشكيك بكل ما هو جديد وتصويره بأنه طارئ وتغريد خارج السرب، وثقافة مستوردة وملغومة وقابلة للانفجار اجتماعياً وسياسياً، وسبل التعبير عن هذه الوصفة كثيرة، وإن كان أكثرها طرافة هو استخدام أدوات العلم ضد العلم، وتسخير منجزات التكنولوجيا لبث ثقافة الخرافة بحيث تصبح عبارة توظيف التكنولوجيا للمثيولوجيا هي الأدق في تصوير ما يجري.
وما تجهله القوى التي تسعى إلى استثمار التخلف وتحويله إلى مناجم بشرية، هو أن الفجوة بين عالمنا وبقية العالم الأكثر تقدماً، قد يصعب ردمها حتى لو لم يكن هناك قوى للشد العسكي، فكيف سيكون الحال.. وكم ستكون مساحة هذه الفجوة إذا عدنا إلى الوراء؟.
إن ظاهر السجال الآن سياسي، لكن عمقه فكري ومعرفي، لأن السياسة في نهاية المطاف محصلة، ونتائج أو تجليات ميدانية لما هو نظري.
ومعركة رواد التحديث بدأت الآن وليس في أيام الرخاء والبطالة، حيث كان الناس يقولون كل ما يعنّ لهم، لأنه ممنوع من الصرف وحبيس كتب أو صالات نخبوية مغلفة .
وقد خاض التنويريون العرب في مطالع القرن الماضي، حرباً ضارية مع قوى الشد العكسي، لكنهم لم يهزموا، رغم أن مجهوداتهم التنويرية جاءت من ثقب إبرة ، حسب تعبير" د . رفعت السعيد" في كتابه عن هؤلاء الرواد، الظاهر السياسي يخفي تحت سطحه صراعاً جذرياً، لكنه نادراً ما يطفو على السطح بل يتم الإيحاء به على نحو غير مباشر احترازاً من الصدام أو بسبب الترهيب الفكري سواء كان تكفيراً أو نبذاً وإقصاءً.
وما كان لنهضة العرب في القرن التاسع عشر، أن تجهض، لولا قوى الشد المضاد، فهل سيظل هذا الإجهاض قدراً لكل محاولات التنوير والعصرنة؟!.
"نقلاً عن الخليج الإماراتية".