أحمد بهاء الدين.. صحفي بدرجة فارس
يوصف الصحفى الكبير أحمد بهاء الدين، “1927 – 1996”، بأنه “فارس الصحافة المصرية”، بسبب أفكاره ومواقفه الواضحة، وأنه لم يلجأ يوما إلى المراوغة أو المناورة، يمتلك سجلا حافلا، لا ينافسه فيه كثيرون، ومن أجل ذلك لا يزال اسمه باقيا ولامعا وخالدا رغم الرحيل، وسنوات المرض والتضييق التي سبقت الرحيل.
كانت القضية الفلسطينية في عقل “بهاء الدين” وقلبه، ارتبط بها وبقادتها وجند قلمه للدفاع عنها وتنبيه العالم العربى إلى خطورة الانقسام بين الدول العربية وبين الفصائل والقيادات الفلسطينية مما يعطى الفرصة لإسرائيل لترسيخ وجودها لاغتصاب المزيد من الأراضى الفلسطينية.
بعد هزيمة 5 يونيو 1967 أصيب “بهاء الدين” بجلطة في المخ وظل يعانى بعد شفائه منها من الاكتئاب الذي أصاب الكثير من المفكرين وقادة الرأى، علاقته بالرئيس السادات تمثل فصلا كاملا في حياته، فقد كان قريبا منه، وكان السادات يلتقى به ويستمع باحترام إلى آرائه، ولكنه وقع فريسة لوشاية بأنه كان في أحداث 15 مايو مناصرا لمراكز القوى وبخاصة على صبرى فغضب عليه السادات، وترك لنا أحمد بهاء الدين كتابًا مهما حكى فيه بعض جوانب هذه العلاقة وهو بعنوان «محاوراتى مع السادات»، بحسب شهادة الكاتب الكبير رجب البنا.
بسبب أفكاره تعرض “بهاء الدين” لأزمة في عهد الرئيس عبد الناصر، فقد طلب منه المشير عبد الحكيم عامر في عام 1962رأيه في النص على تخصيص 50% من المقاعد في البرلمان والمجالس المنتخبة ومجالس إدارات الشركات في الميثاق الوطنى الذي يعتزم الرئيس جمال عبد الناصر إعلانه، فأبدى رأيه بالاعتراض ولم يقتنع بمبررات هذه الخطوة، ومن ثم دفع ثمن “بهاء الدين” هذا الرأى، وغضب عليه الرئيس.
حين وقعت هزيمة يونيو، كان بهاء نقيبا للصحفيين، فجمع مجلس النقابة وأصدروا بيانا أرسلوه إلى الرئيس جمال عبد الناصر، يتضمن الاحتجاج على فرض الرقابة على الصحف وتفضيل صحيفة بالأخبار المهمة، ثم أصدر بيانا آخر عقب اجتماع مجلس نقابة الصحفيين برئاسته يطالب فيه بالإسراع في محاسبة المسئولين عن الهزيمة على جميع المستويات، وإعادة تنظيم الحياة السياسية لإتاحة الممارسة الديمقراطية وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، واعتبر الرئيس عبد الناصر أن هذا البيان طعنة موجهة إليه.. وهكذا شاءت الأقدار أن تجعل أحمد بهاء الدين من أقرب الكُتاب إلى الرئيسين عبد الناصر والسادات، ثم ينزل به غضب الإثنين بسبب مواقفه وآرائه.
كان أحمد بهاء الدين نسيجا وحده في الصحافة والسياسة، وعنوانا على الكتابة الراقية، لم يتغير تبعا لتغير الحكام، كتابته تشبه النهر صافية، عذبة، وتعرف طريقها جيدا إلى عقل الحاكم وقلب القاريء، كان يذهب في كتاباته إلى آخر حدود الأسلاك الشائكة ويتجنب الاصطدام بالألغام، ولذلك لم يكن من الصحفيين الذين عرفوا السجون ولكنه عرف النقل والفصل، بحسب الكاتب الصحفى الكبير صلاح عيسى.
كان كتابه الأول “الاستعمار الأمريكي” أول من دق ناقوس الخطر لما ينتظرنا على أيدى الإمبراطورية الأمريكية التي تغزو الأوطان بالمال بدلا من السلاح، فيقوم الاستثمار الأمريكى باحتلال الدول بالمعونات بدلا من الجيوش، إنها نفس اللعبة التي تؤرقنا حتى اليوم طرحها بهاء وعمره22 سنة فقط. الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية.. كانت أهم محاور “ بهاء الدين” ولذلك عندما قامت ثورة يوليو1952 جاء كتابه “فاروق ملكا” كاشفا لحجم الفساد والاستبداد الذي عاشت فيه مصر، كان فاروق يحب الرشوة وخاصة على مائدة القمار وحدث أثناء حرب فلسطين أن اعتقلت الحكومة عددا كبيرا من أثرياء اليهود، فكان يذهب مندوب منهم إلى نادي السيارات ويلاعب الملك ويخسر عشرة آلاف أو عشرين ألفا.. وفى نهاية السهرة يلتمس الإفراج عن الخواجة فلان فيصدر بذلك النطق السامي!.
وقال إن فاروق جمع كل مساوئ حكام أسرة محمد على حارب نشر التعليم كعباس، ومنح الامتيازات لندمائه كسعيد، ولجأ إلى التخلص من خصومه السياسيين كما فعل إسماعيل، وكان وكيلا للانجليز في مصر كسلفه توفيق لكن الفرق بينه وبينهم ـ يقول بهاء: إنه ارتكب هذه الموبقات في القرن العشرين وفى شعب تطور كثيرا، وقطع في طريق الوعى شوطا طويلا، لم يتخذ بهاء من الكتابه وسيلة للتقرب لثوار يوليو الحكام الجدد، لأنه كان يكتب دائما وعينه على الوطن وليس الحكام.
لقد آمن بالثورة ودافع عنها لكنه أيضا انتقدها، انتقد الاستبداد، وتجاوزات بعض رجال الحكم، وكان من الطبيعى أن يتعرض للاعتقال ولكن عبد الناصر أنقذه وقال لهم: “اتركوا بهاء هو مخه كده”، رغم أنه لم يحدث أن التقى به على الإطلاق، كانت جملة عبد الناصر كاشفة لشخصية “بهاء الدين” التي لا تتحرك لأى مصالح شخصية ولكنه يكتب ما يؤمن به دون النظر لمن يغضب ومن يرضي، يكتب بعد قراءة واسعة وتفكير عميق، وتكون كتابته طوق النجاة لمن يبحث عن الأمل أو يريد حلا لأزمة طالما حيرت صاحب القرار.
من أهم ما كتبه “بهاء الدين” عن علاقته بالرئيس السادات: “ خلال ثمانى سنوات فإن الرئيس السادات صادقنى مرارا، ونقلنى من مكانى كعقاب مرة، وفصلنى من العمل الصحفى مرة وأوقفنى عن الكتابة مرتين، وكان الصعود والهبوط المتوالى مصدر حيرة للكثير من الصحفيين والسياسيين”.
عاش “بهاء الدين” في قلب الصراعات العاتية في الصحافة والسياسة، ولكنه خرج سالما يلقى الاحترام من كل المتصارعين، لأنه لم يكن مشغولا بالمناصب، ولا صراع المناكب ولا حتى بالجلوس على كرسى الحكم، كان مشغولا بالوطن والتفكير وكتابة حرة تعمل على تقدمه وازدهاره لذلك بقي خالدًا رغم الرحيل.