رئيس التحرير
عصام كامل

سيادة الرئيس.. ولكن ليطمئن قلبي؟!


(1)
سأل سيدنا إبراهيم -عليه السلام- ربَّه: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى».. فلم يُنكر المولى -عز وجل- على نبيه حقه في «السؤال»، أو «الاستفسار»، أو «معرفة الحقيقة».. لكن رب العزة أراد أن يسمع منه -وهو أعلم- سبب السؤال، فقال لـ«خليله»: «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ»؟ فأسرع أبو الأنبياء بنفي هذه «التهمة» -إن جاز التعبير- قائلًا: «بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي».. هنا لم يقل ربنا لإبراهيم إن «عقله» لن يستوعب طبيعة هذه العملية، أو أنه لن يدرك أبعادها، أو أنها سرٌ من أسرار الألوهية.. وإنما أجابه: «قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». البقرة الآية 260.


واختلف الفقهاء حول ما إذا كان السؤال صدر من إبراهيم لربه عن «شكٍ» في قدرة الله، أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكا في إحياء الله الموتى قط، وإنما طلب «المعاينة»- رؤية بالعين- لأن «النفوس مستشرقة إلى رؤية ما أخبرت به».. وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير والربيع: سأل «ليزداد يقينًا إلى يقينه»، أو أنه «أحب أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين» وقال آخرون سأل ذلك ربه، لأنه شك في قدرة الله تعالى.. ورُوي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى، وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «نحــن أحــق بالشك من إبراهيــم»، ثم رجح الطبري هذا القول.. (تفسير الجامع لأحكام القرآن، وابن كثيــر).

(2)
نبينا موسى -عليه السلام- طلب من ربه النظر إليه مباشرة، والتجسد أمامه قائلًا: «قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ».. فلم يستنكر رب العزة طلب نبيه، ولم يوبخه، بل أوضح له استحالة تحقيق طلبه: «قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي».. وذلك -كما قال علماء وفقهاء- لأن «العين البشرية غير مهيئة لرؤية الله في الدنيا».. وبالفعل «فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ».. الأعراف الآية 143.

«الحكمة» من هذه القصة «المعرفة».. فكما قال ليوناردو دافنشي: «المعرفة لا تُرهق العقل أبدًا».. ونقول في المأثور الشعبي: «إذا عُرف السبب، بطل العجب».

(3)
كثير من كتب التراث الإسلامي تروي قصة مشهورة، مفادها أن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- نزل والمسلمون عند أدنى ماء من مياه بدر، فقال له الحباب بن المنذر: «يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلًا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟»، قال: «بل هو الرأي والحـرب والمكيدة».

قال الحباب: «يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغور ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماءً ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون».. فأخذ النبي برأيه، وانتهت المعركة بانتصار ساحق على كفار قريش.

هكذا يكون القائد الحقيقي، يأخذ بالرأي الصواب، والمشورة السليمة، ولو كانت من أحد جنوده، ولم يتمسك بـ«تخطيطه»، و«تكتيكه»، و«قراره» وإن كان خطأ..!

(4)
ومن القصص المشهورة أيضًا في كتب التراث، أن الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ارتقى المنبر وأراد تحديد «مهور النساء»، مهددًا أن ما يزيد على 40 أوقية سيؤخذ إلى بيت مال المسلمين.. ثم نزل فعرضت له امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين، كتاب الله أحق أن يتبع أو قولك؟ قال بل كتاب الله، فما ذلك؟

قالت: نهيتَ الناس أن يغالوا في صُدِقِ النساء، والله -عز وجل- يقول في كتابه ((وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا...)).. فقال: كل الناس أفقه من عمر، وكررها مرتين أو ثلاثًا، ثم رجع إلى المنبر فقال للناس: إني نهيتكم أن تغالوا في صُدِقِ النساء، ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له.

فـ«الفارق» تراجع عن «قراره»؛ نزولًا على رأي «امرأة» من عامة الشعب.. ولم يتهمها بأنها من «قوى الشر» التي تشوه كل إنجاز، ولا ترى إلا كل ما هو سواد!

(5)
الطاغية «فرعون»، عندما أرسل الله إليه سيدنا موسى -عليه السلام- دار حوار بين الطرفين، بعد أن جمع فرعون السحرة، ليبطلوا «سحر» موسى، كما كانوا يعتقدون، وصوَّر القرآن الكريم هذه المناظرة في الآيات من 105 إلى 120 من سورة الأعراف.

وما نود التنبيه عليه أن فرعون رغم جبروته، وبطشه، وديكتاتوريته قَبِل أن يتحاور مع «موسى» الذي جاء ليزعزع ملكه، ويبدد عرشه.

(6)
خلال حضوره حفل إطلاق استراتيجية مصر للتنمية المستدامة «رؤية مصر 2030»، وجه الرئيس السيسي كلامه للمصريين: «لو بتحبوا مصر، اسمعوا كلامي أنا بس، ومتسمعوش كلام حد تاني».

وبعد نحو أسبوع من توقيع الاتفاقية المثيرة للجدل، والتي سيتم بمقتضاها تسليم مصر جزيرتي «تيران وصنافير» إلى السعودية.. اجمتع الرئيس مع «الأسرة المصرية»، وعندما تطرق إلى أزمة «الجزيرتين» قال: «أنا قولت كلام كتير في الموضوع ده.. من فضلكم أرجو الموضوع ده منتكلمش فيه تاني»!

وفي كلمة له، خلال تفقده بعض المشروعات في الفرافرة، وجه السيسي حديثه لما سماهم «قوى الشر» دون أن يحددهم، قائلًا: «اللي يقف في نوفمبر 2013 ما بيخافش، واللي يوقف في الكلية الحربية، واللي يقف ويعطي مهلة 7 أيام ما بيخاقش، واللي يعطي مهلة 48 ساعة ما بيخافش».

سيادة الرئيس.. اسمح لي أقول لك إن عدم خوفك لم يكن نابعًا من شجاعتك الشخصية فقط، بل لا أبالغ حينما أقول إن كل أجهزة الدولة كانت تقف صفًا واحدًا، وتسعى لهدف واحد.. وأنك لم تكن تستطيع أن تفعل كل ذلك، لولا الدور التعبوي الذي لعبه الإعلام في كشف تجاوزات وجرائم الإخوان..!

سيادة الرئيس.. لن نزايد عليك، ولم نشكك في وطنيتك، وما كان هدفنا من تظاهرات 15 و25 أبريل إلا لمعرفة ملابسات اتفاقية «تيران وصنافير».. على الأقل لتطمئن قلوبنا بيقين المعرفة!
الجريدة الرسمية