الأزمة!!
على ما يبدو أن الفراغ السياسي الحادث في مصر، سيظل مستمرًا لفترة قد تطول، خصوصًا مع إصرار سياسيينا من جهة، والنظام الحاكم من جهة أخرى، على تجاهل الأبجديات الحاكمة لمسيرة أي مجتمع يسعى للتطور والازدهار، بضرورة تعاون كل أطيافه الفكرية والسياسية، خصوصًا أن الديمقراطية هي اللافتة الكبرى التي توافق المجتمع بكامله على أن تكون هي المظلة التي يعيش تحتها الجميع.
فقد أسقطت ثورة يناير الحزب الوطني الديمقراطي كحزب أغلبية ساد الحياة السياسية لسنوات طويلة، فلم يخلق سوى فساد واسع ورموز سامحها الله لم تسعَ إلا لمصالحها الضيقة، وأسقطت ثورة يونيو الإخوان المسلمين كتنظيم يستخدم الدين لتحقيق أحقر الأهداف الدنيوية، وبسقوط هذين التنظيمين اتسعت حالة الفراغ السياسي بشكل ينذر بخطر شديد، فلا يوجد مجتمع بشري يمكن أن يواصل مسيرته لتحسين أوضاعه دون أن يكون مستندًا إلى الركائز الطبيعية التي بدونها لا يمكن أن تتواصل مسيرة الحياة، هاتان الركيزتان هما الأغلبية والمعارضة.
الحادث أن النظام الحاكم وبينما هو يمضي بكل قوة لتحسين أوضاع الناس، يحرص على ألا يكون له ظهير سياسي مؤيد في الشارع السياسي والبرلمان، ربما خشية تكرار مآسي التنظيمات السياسية المؤيدة للحكم، منذ ثورة يوليو 1952، ولكن وللأسف النظام الحاكم لا بد أن يدرك أن العيب ليس في النظرية، ولكنه في التطبيق وسواء شاء أم أبى لا بد له من ظهير سياسي يسانده ويؤيده.
على الجانب الآخر، الكيانات والأحزاب السياسية ورموز النخبة المنتمية، لا يشعرون أن عليهم مسئوليات وطنية جسيمة تجاه وطنهم وبلدهم، لا يدركون أن الجلوس أمام الفضائيات أو أجهزة الحاسوب أو الهواتف الذكية، لن يصنع من أي منهم زعيمًا سياسيًا يمكن أن يكون حاملاً لرأي مخالف لرأي الأغلبية الحاكمة.
على النظام الحاكم أيضًا أن يدرك -الآن وليس غدًا- أن خلق الظروف المواتية لنشأة التيار أو الظهير السياسي المؤيد، لا تقل أهمية عن ضروة قيامه أيضا -كنظام حكم- أن يدعم وبسرعة وبكل إخلاص خلق تيار سياسي معارض.
يا سادة.. إن الأزمة هي الممارسة السياسية غير المحترفة التي تعانيها مصر حاليًا، لم تولد في عصر مبارك ولم تولد في عصر السادات، ولكنها ولدت وترعرعت مع بدايات حكم الرئيس جمال عبد الناصر وتوسعت وزادت حدتها في نهايات ذلك العصر، وبالتحديد يوم سقط المشروع الناصري في أعقاب هزيمة يونيو 1967.
مع سقوط المشروع الناصري ضاع الحلم القومي وضاعت آمال عبد الناصر واستبد المرض واليأس بالرجل الذي مات معنويًا في أعقاب هزيمة 1967 قبل أن يموت فعليًا في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970.
آنذاك عمت الصدمة الأمة العربية من أقصاها إلى أقصاها، وشعر الشارع العربي بالضياع، فقد كانت أفكار عبد الناصر وآماله وطموحاته طاقة جبارة محفزة للوجدان العربي من المحيط للخليج.
بعد سقوط المشروع الناصري انعزل الغالب الأعم من الناس، ونمت فكرة مشروع الإسلام السياسي، الذي لم يقدم للناس الممارسة المفيدة.
واجب على الجميع أن يدرك أن مقومات مشروع عبد الناصر، الذي سقط في أواخر الستينيات، ستظل هي المقومات التي يجب أن يشارك الجميع في تحقيقها، ولكن بوسائل وأفكار مختلفة.
فقد كان عبد الناصر وبلا أدنى شك زعيمًا وطنيًا قوميًا منحازًا للمهمشين في العالم، وكان مملوءًا بطموحات لبلده ووطنه العربي وللشعوب المغلوبة على أمرها، لا أول لها ولا آخر، ولكن كانت طموحات وأحلام عبد الناصر أقل بكثير من إمكانياته وأقل بكثير من قدراته كرجل وكدولة وإمكانيات معاونيه، وسقط المشروع الناصري لاعتبارات مختلطة.