رئيس التحرير
عصام كامل

سيادة الرئيس.. لسنا في زمن السكوت !!


إن المطلع على تاريخ الشعب المصـــري سيدرك أنه من أكثر شعوب الأرض صبــرًا على حُكَّامه، والشخصية المصرية تتسم بأن لديها تكيفًا فائضًا مع القهر والظلم والاستبداد، بل مع الفقــر مهما اشتد، فالمصرى يعيش على الندرة، ويكتفى بما يسد رمقه من قليل من الطعام والشراب، وقد يكتفى بوجبة واحدة يوميًا، ولا ينظر كثيرًا لنوعية الحياة، ولا ينظر لطعام وملبس ومسكن غيره فأقل القليل يكفيه، ودائمًا يطيع أولى الأمر حتى ولو كانوا على باطل، وحتى لو قاموا بتجويعه وتقييد حريته واستعباده، وما أصفه الآن لا ينطبق على كل المصريين لكنه ينطبق على الغالبية العظمى من شعب مصر وعبر تاريخه الطويل، فالشعب المصرى لم يثور إلا في مرات قليلة جدًا من تاريخه، وإذا حاولنا أن نقدم أمثلة فسوف نجد الكثير والكثير، لكننا سنكتفي بما شهده المصريــون خلال العقود الأخيــرة.


فبعد أن نجحت ثورة يوليو 1952 التي قام بها الجيش على نظام ملكىي فاسد واحتلال بريطانى غاشم، قامت بتغيير جذرى في بنية المجتمع المصرى مكن الفقراء والكادحين وهم الغالبية العظمى من شعب مصر من الحصول على الكثير من حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المهدرة بفعل مشروع تنموى قومى منحاز لهم، ومع مطلع السبعينيات انقلبت الأحوال وجاء نظام سياسي جديد انحرفت بوصلته بعيدًا عن حقوق الفقراء والكادحين وفى عام 1977 صدرت بعض القرارات الاقتصادية وارتفاع لأسعار بعض السلع الأساسية التي تمس القوت اليومى للمصريين فكان الانفجار وخروج المصريين عن صبرهم وصمتهم، وشعر النظام في حينه بأنه في خطر فتراجع عن قراراته حتى تهدأ الأوضاع وتسكت الأصوات الهادرة وقد كان.

وبعدها جاء مبارك وجثم على صدر الوطن والمواطن لمدة ثلاثة عقود عاد فيها الشعب المصرى إلى طبيعته التاريخية من حيث الصبر والصمت رغم كل المعاناة التي عاناها من قهر وظلم واستبداد وتلاعب بقوته اليومى، أدى إلى ارتفاع نسبة الفقر بشكل مفزع، حيث قدرت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر في نهاية حكم مبارك إلى ما يقرب من 41 % وفقًا للتقارير الدولية ( منها تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة )، هذا بخلاف من يعيشون في حزام الفقر والذين تراوحت نسبهم بين 23 % و25 %، وهو ما يعنى أن ما يقرب من ثلثى المصريين يعانون من الفقر بشكل أو بآخر، وكان مبارك يتبع أسلوبا غريبا في التعامل مع الشعب المصرى، حيث كان يوهم الفقراء والكادحين بأنه يعمل من أجلهم في الوقت الذي كانت فيه سياساته قائمة على الفرز الاجتماعى..

فكان الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرًا، وعندما كانت تعلو بعض الأصوات يحاول أولا تكميمها من خلال عصاه الغليظة المتمثلة في الأجهزة الأمنية، وعندما تفشل يقوم بتغيير الأسلوب، حيث يتيح مساحة من الكلام لمجرد الكلام بمعنى تكلموا وسنفعل ما نريد، وقد وصلت المسألة في آخر أيامه وحين تم تشكيل البرلمان الموازى بعد تزوير انتخابات 2010 وعلت أصوات المعارضين خرج ليقول خليهم يتسلوا، وكانت النتيجة فقدان المصريين صبرهم والانفجار في وجهه وأصبحت أصواتهم براكين وشلالات هادرة في الشوارع والميادين انهار على آثارها مبارك ومؤسسات حكمه.

ومنذ 25 يناير والشخصية المصرية قد تبدلت وتغيرت بشكل جذرى ولم يعد الصبر والصمت من خصائصها التي تميزت بها تاريخيًا، خاصة مع ما شهده المجتمع من ظهور جيل جديد يجيد استخدام التكنولوجيا الحديثة، فبعد أن كانت وسائل الإعلام حكرًا على الدولة ورجال أعمالها المتحكمين في وسائل الإعلام التقليدية ( مقروءة ومسموعة ومرئية ) أصبحت هناك وسائل إعلام جديدة متمثلة في المواقع الإلكترونية على الشبكة العنكبوتية ومنها مواقع التواصل الاجتماعى ( فيس بوك وتويتر واليوتيوب ) والتي أصبحت تتابع وتستخدم على نطاق واسع، في مقابل انحسار الإعلام التقليدى ونجح الإعلام الجديــد بشكل كبيـــر، وأصبح لكل مواطن وسيلة إعلاميـــة خاصة به يمكنه النشر عليها ما يشاء والتعبير عن رأيه في كل زمان ومكان، وبعد نجاح هذه الوسائل في الحشد لثورة 25 يناير تم الاعتماد عليها في الحشد لثورة 30 يونيو، وكما نجحت في الإطاحة بمبارك نجحت في الإطاحة بمرسي.

ومنذ ذلك التاريخ 25 يناير 2011 أصبح الشعب المصرى من الشعوب المتكلمة ولم يعد من الشعوب الصامتة خاصة أن كلامه دائمًا يأتى للتعبير عن حقوقه المهدرة، فمنذ خروجه على مبارك مطالبًا وصارخًا بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية وهو لم تتحقق مطالبه ومازالت السلطة السياسية تراوغه في الوقت الذي تزداد فيه معاناته على كل الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وتحاول السلطة الراهنة إسكاته وإعادته إلى سابق عهده صابرًا وصامتًا، ويحاول الرئيس السيسي أن يستخدم السلطة الأبوية التي ترى أن الحاكم أب لا ينطق إلا الحق وعلى الأبناء أن يطيعوه ويسمعوا كلامه حتى ولو كانوا غير مقتنعين وإلا سينالون عقاب عقوق الوالدين، وفى حديث الرئيس الأخير الذي استهدف منه احتواء غضب بعض المصريين على تنازل مصر عن جزيرتى تيران وصنافير للملكة العربية السعودية، وهى الجزر التي تربت أجيال عديدة وعبر مناهجنا التعليمية على أنها جزء من التراب الوطنى نجده يطالب المصريين بأن يسكتوا ولا يتحدثوا في هذا الموضوع مرة أخرى.

وبالطبع أثارت هذه الكلمات حفيظة الكثير من المصريين خاصة في ظل أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية المتردية وفشل الحكومة في مواجهاتها والتخفيف عن كاهل الفقراء والكادحين، وهو ما جعلهم يستغلون قضية التنازل عن الجزيرتين لتعلوا أصواتهم من جديد ويطالبون بالخروج للشوارع والميادين معلنين تمردهم وعدم سكوتهم. 

لذلك على الرئيس أن يعي أننا لسنا في زمن السكوت، وعليه أن يدرك كلمات الزعيم جمال عبد الناصر بأن الشعب هو القائد والمعلم، وعليه أن ينحاز فعليًا وعمليًا للفقراء والكادحين الذين لا يخشون على شيء ليفقدوه والذين تعلوا أصواتهم ويصرخون من الألم، فمازالت مطالبهم المشروعة في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية لم تتحقق، ولن يصبروا ولن يسكتوا فقد تجاوزنا زمن الصبر والسكوت.. اللهم بلغت اللهم فاشهد.
الجريدة الرسمية