رئيس التحرير
عصام كامل

توجو مزراحي.. صانع الأفلام اليهودي الذي لا يعرفه السبكي

توجو مزراحي
توجو مزراحي

قبل تشكل الوعي لديّ -وأنا واحد من جيل مواليد نهاية السعبينات- ظل الاسم بالنسبة لي محيرًا وأنا أراه على تترات أفلام الأبيض والأسود التي كان يتحفنا بها التليفزيون المصري خاصة أفلام «سلفني تلاتة جنيه وسلامّة وعلي بابا والأربعين حرامي» وذلك قبل احتكار الفضائيات لتراثنا السينمائي، وكنت أجد صعوبة في استساغة أن صانع أفلام سينمائية قد يكون له اسم كـ«مزراحي» مع ما يشكله إضافة حرف الراء للزاي ملحقًا بهما حرف الحاء من صعوبة في النطق وغصة في الحلق ومغص في البطن، فهو غير شاعري ولا فني بالمرة، هذا بخلاف الاسم الأول «توجو»..

وبانتقال الوعي إلى «نكست ستيب» انقشعت أمام عيني غمامة عظمى عن فضل هذا الرجل على صناعة السينما في مصر وهي ربما تكون غمامة «صناعية» من اختراع نظام «يوليو» لطمس فضل اليهود على الحياة في مصر على المستويين الاقتصادي والفني.

إن حياة «توجو مزراحي» يمكن تلخيصها في مشاهد سينمائية كالمهنة التي أحبها ووقع في أسرها حينما وطأت قدماه ستوديو «جومون» بباريس، وهو المولود في الإسكندرية في صيف عام 1901 لأسرة إيطالية تمصرت، ورأت أن الإسكندرية -في ذلك الحين-  أروع من روما، فتعلم في مدارسها حتى حصل على دبلوم التجارة الفرنسية، وفي عام 1921 سافر إلى إيطاليا ليكمل تعليمه في دراسة التجارة، إلا أنه لم ير حلمه في التجارة ولكن تجسدت أحلامه في باريس حيث وقع في أسر الفن السابع فقرر دراسته متحديًا رغبة الأسرة.

وطارد «توجو» حلمه حتى أمسك به متمثلًا في آلة تصوير سينمائي 53 مللي، وبعد أن استوعب كثيرًا من أسرار العمل السينمائي قام بتصوير بعض الأفلام القصيرة عن معالم باريس وروما والبندقية، ولحرفيتها تعاقدت معه «الشركة السينمائية العالمية» بباريس على شراء هذه الأفلام لتسويقها، ويفضل «مزراحي» العودة للإسكندرية عام 1928 محملًا برغبة وعشق كبيرين في صنع فيلم مصري خالص على أرض الوطن.

ومن حي «باكوس» في الإسكندرية بدأت تترات البداية حينما أنشا استوديو «توجو»، الا ان غضب العائلة من اتجاهه للفن وأن يكون «مشخصاتي» ظل يؤرقه فأراد التخفي تحت اسم مستعار فاختار أن يكون اسمه «أحمد المشرقي» وواصل نشاطه الفني مصورًا للأخبار والأحداث في مدينه الإسكندرية، لكنه سرعان ما انتقل للإخراج بعدما ترك مهمة التصوير لصديق عمره «عبد الحليم نصر» الذي شاركه كل أفلامه ما عدا فيلم وحيد اسمه «ليلة ممطرة».
وفى عام 1930 عرض أول أفلامه «الهاوية» الصامت بدار سينما «بلفي»، بالإسكندرية وبعد ثلاثة شهور عرض فى القاهرة تحت اسم جديد «الكوكايين» فى 23 فبراير 1931، وقد قام «مزراحي» بإنتاج وإخراج وتصميم الديكور وكتابة السيناريو والحوار وعمل المونتاج، وقام بتمثيله ممثلون بأسماء مستعارة مثل «عبد الله ثابت» و«فاطمة ثابت» و«فاطمة حسن مشرقى».
وعند عرض الفيلم فى القاهرة قام حكمدار القاهرة الإنجليزى فى ذلك الوقت «رسل باشا» بإرسال خطاب شكر لـ«توجو مزراحي» عن إنتاج هذا الفيلم الذى يعالج مشكلة الإدمان.
 
فى العام التالى 1932 قدم فيلم «5001» وقد قامت ببطولته «دولت رمزى».. وفى عام 1933 قدم فيلمه الناطق الأول «أولاد مصر» من تمثيله مع «حنان رفعت» وشقيقه الذى اختار لنفسه اسم «عبد العزيز المشرقي».. 
وفى عام 1934 يقدم أول أفلامه الكوميدية «المندوبان» وقد قام بتمثيله أشهر ثنائي كوميدي فى المسرح المصري فى تلك الفترة «فوزى الجزايرلي» فى دور «المعلم بحبح» و«إحسان الجزايرلي» زوجته «أم أحمد»، فيحقق الفيلم نجاحاً كبيراً، ويواصل «مزراحي» استغلال نجاح الثنائي الكوميدي فيقدمهما فى فيلمه التالي «الدكتور فرحات» عام 1935 ويشاركهما بالتمثيل فى أحداث الفيلم.

وفى عام 1935 قدم أيضاً فيلمين، الأول «شالوم الترجمان» بطولة «شالوم» -وهو المصري اليهودي المولود عام 1900 وتوفي في روما عام 1948 ويعد من اكتشاف مزراحي وأول ممثل كوميدي سميت الأفلام باسمه الحقيقي  والممثل الثاني كان إسماعيل يس- و«بهيجة المهدي» -وهي يهودية واسمها الأصلي هنريت كوهين زوجة علي الكسار في فيلم «سلفني تلاتة جنيه»- و"عبده محرم" ويدور حول زيارة سائح أمريكى مع ابنته المخطوبة لشاب أمريكى للإسكندرية، فيتعرف على بائع اليانصيب "شالوم" ويتخذه دليلاً وترجماناً له أثناء زيارته لمصر، على الرغم من كونه لا يعرف أى لغة أجنبية، وينتقل شالوم مع السائح وابنته إلى القاهرة، وحين تتحدث الابنة عن غرامها بحبيبها الأمريكى يعتقد أنها تحبه هو، ويصل الخطيب الأمريكى إلى القاهرة فيدرك «شالوم» الحقيقة.. وفيلمه الثانى عام 1935 كان باسم «البحار» بطولة فوزي وإحسان الجزايرلى وقام «توجو مزراحي» فى الفيلم بدور «حميدو» ابن البلد.

وفى عام 1936 قدم أيضاً فيلمين مع «بربرى مصر الوحيد على الكسار» الأول باسم «مائة ألف جنيه» والثانى باسم «خفير الدرك»، والفيلمان من بطولة «زوزو لبيب».
فى عام 1937 قدم «العز بهدلة» بطولة «زوزو لبيب» و«أحمد الحداد» و«شالوم»، وفيلم «الساعة سبعة» بطولة على الكسار وبهيجة المهدي و«عز الطلب» و«شالوم الرياضي».
ثم قدم فى عام 1938 «التلغراف» بطولة على الكسار وبهيجة المهدى، وفيلم «أنا طبعى كده» بطولة «زوزو شكيب» و«فؤاد شفيق».

وفي عام 1939 قرر «توجو مزراحي» أن ينقل نشاطه السينمائي إلى القاهرة فاشترى استوديو وهبي الجديد بميدان الجيزة ليحوله الى استوديو ومعمل الجيزة بعد أن أسس شركة سينمائية أطلق عليها اسم «شركة الأفلام المصرية»، واتخذ شعارًا لشركته عبارة عن الهلال بداخله النجوم الثلاث، وهو شعار العلم المصري في تلك الآونة وهو نفس العام الذي قدم فيه موهبة ليلى مراد «اليهودية وقتها» بشكل جديد وأعاد اكتشافها فصنع معها خمسة أفلام فى سنوات متتالية أكسبتها شهرة وخبرة عالية، وأعطاها الفرصة في ثاني أفلامها «ليلة ممطرة» أن تتقاسم البطولة مع الفنان الكبير يوسف وهبي، إضافة إلى أنه اكتشف المطرب كارم محمود سينمائيا إلا أن المخرج نيازي مصطفى هو الذي قدمه في فيلم «ملكة الجمال» مع ليلى فوزي، وفضله على السينما لم يكن فقط في اكتشاف النجوم وتقدميهم بل سعى مع المخرج أحمد بدرخان لإنشاء نقابة السينمائيين المصريين وهو الحلم الذي تحقق عام 1955 بتدشين هذه النقابة، ف،«مزراحي» كأغلب المتميزين كان متعدد المواهب من تمثيل وإخراج وتصوير وكتابة سيناريو وصناعة ديكور، وصنع أفلاما كوميدية واستعراضية ودرامية تعد من تراث السينما المصرية مقارنة بمنتجي هذا الجيل خاصة السبكي الذي أشك إن كان يعلم بـ«توجو مزراحي» رغم أنه يتمتع بإنجازه إلى اليوم فلولاه ما توطدت السينما من حيث صناعة في مصر يعيش على خيرها كثير من أربابها اليوم. 
وفي عام 1944 قدم مع السيدة أم كلثوم فيلم «سلّامة» من إنتاجه وإخراجه وشدت فيه بـ«غني لي شوي شوي»، و«قولّي ولا تخبيش يا زين»، وجعل السيدة أم كلثوم تتلو آيات قرآنية ضمن أحداث الفيلم. 

وبعد هزيمة الجيش المصري في فلسطين على يد العصابات الصهيونية والإعلان عن قيام الكيان الإسرائيلي تسمم الجو العام في مصر وانقلبت المحبة الظاهرة بين اتباع الأديان المختلفة خاصة اليهودية والمسلمين إلى نوع من العداوة المبطنة أحيانا والظاهرة أحايين كثيرة فعلت الأصوات التي تطالب بمحاربة شركات وأعمال اليهود في مصر، حتى ولو كانوا من المصريين، وتم تخريب متاجر اليهود، كما حدث لمتجر شيكوريل سنة 1984، واستشعر مزراحي إن إرهاصات البداية لمصر الجديدة المتنازع عليها بين التيار الديني ورجالات الجيش قادمة لا محالة، وأن مصر «الكوزموبوليتانية» انتهت بلا رجعة فقام بتصفية أملاكه وقرر الهجرة إلى إيطاليا رغم إلحاح المقربين منه بالسفر إلى إسرائيل أرض الموعد إلا أنه رفض هذا الإلحاح وظل مقيما بروما وتوقف عن النشاط السينمائي بشكل كامل حتة وفاته بها عام 1986 مؤمنًا أن ما قدمه في مصر حقق كل أحلامه حيث ظل في إيطاليا قرابة 40 عامًا لم يقدم فيها فيلمًا واحدًا رغم عشقه للفن السابع. 

الجريدة الرسمية