جمهورية "بيلارس"
عرف التاريخ قديماً وحديثاً جمهوريات لا وجود لها بشكل حقيقي في الواقع، منها "جمهورية أفلاطون"، التي يتولاها الفلاسفة والحكماء، أما الشعراء فهم مطرودون منها، و"جمهورية فرحات"، وهي مسرحية ليوسف إدريس، وكذلك "جمهورية الصمت"، لجان بول سارتر التي أراد التعبير من خلالها عن مكابدات بلاده تحت الاحتلال الألماني.
لهذا لا بأس أن نضيف إلى هذه السلالة الرمزية من الجمهوريات واحدة أخرى بعنوان جمهورية "بيلارس"، وبيلارس هي مدينة أسطورية من نسج خيال الشاعر بريخت، تصوّر أنها "يوتوبيا"، محررة من الشقاء والظلم فإذا وصل إليها الأعمى يبصر وفيها يُشْفى الأبرص، ويصبح الفقير المعدم موسراً، أما المحرومون فإن نهاية حرمانهم تكون عند بلوغ بواباتها، لكن ما إن يتمادى الشاعر في وصف هذا الفردوس أو الجمهورية المثالية، حتى يصله نبأ صادم وهو أن مدينة بيلارس أصابها الزلزال ودمرها.
إن أسوأ ما يقع فيه أي حراك إنساني يسعى إلى التغيير ونُشدان الأفضل هو المبالغة في الوعود، بحيث ما إن ينتصر الحراك ويحدث التغيير حتى تصبح الوعود كلها عُرقوبية.
الثورة الفرنسية في بداياتها الربيعية كانت بيلارس، لكن سرعان ما أكلت أبناءها واستطالت مخالبها إلى أحفادها، وثورة أكتوبر الروسية صوّرها شعراؤها والمبشّرون بها فردوساً يشبه بيلارس الأسطورية، حيث لا جوع ولا برد ولا حرمان، لكن بعد مرور أقل من ثمانين عاماً هوت المعاول على تماثيل رموز تلك الثورة، وفرّ من البلاد علماء من طراز زاخاروف وأدباء ومفكرون مثل سولجنستين وبرودسكي وباسترناك مؤلف رواية "دكتور زيفاكو"، التي تحولت إلى فيلم عالمي شهير.
وعالمنا العربي لا يشذّ عن هذه القاعدة، ليس بسبب فساد مزمن في حركات التغيير أو نقص في الحلم والكفاءات القادرة على ترجمته إلى واقع، بل بسبب الإفراط في الوعود، بحيث ما إن يتحول الحراك أو الثورة إلى نظام بديل حتى تصبح الأحلام كوابيس، وما حدث من حراك في العديد من الأقطار العربية بدءاً من تونس ومروراً بمصر قدم نماذج من الإفراط في الوعود.. فتهيأ الفقراء لخلع أسمالهم ومغادرة العشوائيات إلى أحياء نظيفة، واستعد المرضى للعلاج الذي طالما عجزوا عنه لضيق ذات اليد وغياب الرعاية الصحية.
وثمة من تصوروا أن الحراك سوف يخفض من درجات الحرارة صيفاً ويضاعفها شتاءً من أجل الدفء، أما ثالوث الرغيف والعدل والمساواة في الحقوق والواجبات فقد تحول إلى هرم من البطالة والانتظار والاقتراب من تخوم اليأس.
ذلك كله لم يحدث بسبب التغيير بل في التصورات المبالغ بها كما سيحدث بعده، بحيث بدت العواصم التي تعج بالفقر والزحام والبطالة وكأنها "بيلارسات"، قادمة في الطريق وانتهى الفصل الأول من الدراما بما انتهى إليه، فالعرب لم يعودوا عربيِن فقط بل أعراباً، والأطراف التي كانت تعبّر عن الاختلاف بالكلام والسجال السياسي الأعزل، أصبحت تتخندق وتتسلح وتستخدم كل مفردات قاموس الهجاء ضد بعضها.
فلا الفقير وجد الرغيف، ولا المرتهن تحرّر، ولا المظلوم أنصفته العدالة الموعودة، ذلك بأن الوعود أطلقت بالمجان وما من ضريبة على الكلام كما يقال.
"بيلارسات"، العرب لم يصبها الزلزال مثلما حدث لجمهورية بيلارس، لكن الأعاصير هبّت عليها من كل الجهات وإن كانت الجهة الأقسى هي الأرض التي يقف عليها الجميع، فقد نسوا أنها لهم بالتساوي وأنها الأحق بكل الطاقات والوقت كي تُرمم ما قُضِم منها، وما تقاسمه سماسرة السياسة وحيتان الفساد العميق من لحمها وعظمها ودمها.
حبذا التواضع ولو قليلاً في الوعود بحيث لا نصور الغد بأنه بيلارس السحرية كي لا نفقد مصداقيتنا، ونكرر حكاية الراعي والذئب بشكل أشد مأساوية.
نقلاً عن الخليج الإماراتية