رئيس التحرير
عصام كامل

هكذا يا أخي الفرس

كانت قطع الثلج وفتات الصقيع هي مصدر اللون الأبيض الوحيد في كل ما يحيط به.. تتساقط عليه ولا يرغب حتى في إزاحتها في ذاك الوقت الذي زحف فيه السواد محاصرا له بكل قسوة، ومع ذلك كان صابرا صامتا كسيرا لا يحرك ساكنا هو أو حصانه الذي يجر عربته المتهالكة في شوارع مدينة باردة قاسية يسكنها الجليد دوما كما يسكن قلوب ساكنيها، فقط كل ما يرده هذا الحوذى (العربجى) هو البوح.. نعم القدرة على توصيل همه للآخرين عله يجد من يحنو عليه ويواسيه ولو بكلمة عن فقدان أعز ما لديه في حياته والتي فقدت معناها تماما بفقده.. ابنه الشاب الذي ربما مات من الحمى أو من الإهمال لكونه فقيرًا بلا ثمن أو ربما شىء آخر..لا يهمه الأسباب مهما تدنت ومهما قسمت ومهما كانت عبثية.. المهم أنه مات وتركه فريسة لحزنه وضعفه ولم يتبق له من تلك الدنيا القاسية سوى أمل واحد.. أن يسمعه أحد وأن يهتم ولو ظاهريًا أو مجاملة بفاجعة فقدانه ابنه الصغير !

طال صمته وسكونه وهو جالس أمام إحدى حانات مدينته حتى ظهر له رجل في زي عسكري لم يجد وسيلة غير الركض بقدمه لتنبيهه حتى يتحرك ويوصله إلى مكان ما، لم يحزن أو يقاوم أو حتى يلم ذلك المتعجرف الفظ ولكنه حاول أن يستميله ويقص عليه همه قائلا: هذا الأسبوع مات ابنى.. يقولون من الحمى، ورغم قسوة الكلمات وحاجة قائلها لمن يشفق عليه ولو بكلمة مواساة صغيرة، لم يسمع سوى رد واحد.. لقد مات إذًا.. حسنًا تم تبع ذلك سباب لأن الرجل تحاسر ونظر خلفه محاولا التواصل مع سيدة !

تبع ذلك موقف مشابه مع مجموعة من الشباب العابثين والسكارى الذين أهانوه وعمقوا جرحه عندما حاول أن يحدثهم عن موت الابن.. استبد به الألم وضاقت عليه الأرض بما رحبت فلم يجد بدًا من العودة لمنزله الذي كان في حقيقة أمره مكانًا غير آدمى يجمع كل فقراء مدينته ومشرديها وضعفائها بجوار أحد اسطبلات الخيول.. حسنا، المهم الآن هو حصانة المسكين الذي يشاركه قسوة تلك الحياة وربما قسوة غلاظ القلوب من سكان مدنيته الباردة، حاول النوم الذي استحال عليه فمضى يحدث أن شركاء البؤس في مبيت المشردين فلم يستمع له أحد، ذهب لإطعام حصانه الذي ما أن شعر به حتى بدأ يتحرك نحوه في انتظار ما تيسر من طعام تلقفه من شدة جوعه فحدثه العربجى المكلومى قائلا:

- تمضغين؟ حسنًا امضغي امضغي.. ما دمنا لم نكسب حق الشعير فسنأكل الدريس... نعم أنا كبرت على القيادة، كان المفروض أن يسوق ابني لا أنا، كان حوذيا أصيلا لو أنه فقط عاش.. ويصمت أيونا بعض الوقت ثم يواصل - هكذا يا أخي الفرس، لم يعد كوزما (ابنه) أيونيتش موجودا.. رحل عنا.. فجأة.. خسارة.. فلنفرض مثلا أن عندك مهرا وأنت أم لهذا المهر.. ولنفرض أن هذا المهر رحل فجأة، أليس مؤسفًا؟ وتمضغ الفرس وتنصت وتزفر على يدي صاحبها، ويندمج أيونا فيحكي لها كل شيء.

تلك هي قصة (حزن) أو (لمن أشكو أحزانى) للرائع أنطون تشيخوف أديب روسيا القيصرية الكبير والذي كان طبيبا يعالج جروح البشر الداخلية قبل الخارجية ويشعر بأنات الموجوعين من قسوة تلك الدنيا ومن غلظة قلوب فاقت الحجارة، تقع أحداث القصة في موسكو قبل الثورة البلشفية والتي أطاحت بالحكم القيصرى وفيها ندرك أن بعض البشر أو الكثير منهم يتدنى لما دون الحيوان الذي ربما يشارك صاحبه بعض الهموم ويلتصق به محاولا تخفيها عنه.. كان الحيوان أرحم بأيونا العربجى المسكين من سادة قومه من الكبراء أو من الشباب المرفه العابث السكير الذي لا يهمه (أيونا) أو ابنه أو ملايين من المعدمين والفقراء والضعفاء.. فقط فلنحيا وراء شهواتنا ولنخرج من حانة السكارى إلى حانة الحياة لاهين متمتعين دون الحيوان الذي فاقنا رحمة وشعورا ونبلًا وإنسانية !

فقط انظر حولك في مصر التي صارت تشبه موسكو قبل ثورتها الجامحة وتأمل كم المكلومين والمستضعفين الذي لا يجدون من يشكون له غير الله وكفى به حسيبا بالطبع، ولكنهم في حاجة لمن يستمع إليهم ويربت على قلوبهم ويواسيهم ولكنهم لا يستطيعون لذلك سبيلا !

فقط انظر لنفسك وستجد أنك إما محصور بين كونك (أيونا ) المسكين المكلوم الجريح الموجوع مع كل شهقة نفس أو ابنه الذي رحل مرضًا أو إهمالا أو لسبب وضيع في محيط لا يرحم.. ربما تكون أيضًا السيد القاسى كبير القوم أو ربما تكون من القلة المرفهة العابثة التي لا يؤلمها مصائب الآخرين، إن كنت كذلك فسارع بتطهير ذاتك حتى وإن صرت حصانًا !
fotuheng@gmail.com

الجريدة الرسمية