رئيس التحرير
عصام كامل

البيت الكبير


حلم لطيف مر بخاطري، ما بين النوم واليقظة في إحدى أمسيات يناير الباردة، وأنا جالسة خلف عجلة القيادة أنتظر أحدهم.

كانت نسمات الهواء القارسة تنساب لتسع وجهي عبر شق صغير أحدثته حين أنزلت زجاج نافذتي، ها هو قمر يناير يودعنا، تحت نقاب من الغيوم الرمادية، أحاول لملمة أشلائي وزرع الدفء في يديَّ الباردتين، بعد يوم طويل مرهق.


ولكن ما بين دفء السيارة، وبرودة الشارع أميال وكيلومترات وإرادة وشجاعة لا تقوى على انتزاعي من مقعدي كي أترجل وأنزل.

وفي البعيد حيث وميض خافت من ضوء شارع متفرع في أحد المنحنيات كانت هناك أم تحت بطانية مع صغارها، لم تكن قطة بل امرأة تضم أولادها الثلاثة لتمنحهم ما تبقى في جسدها من الدفء.

مشهد لم يكن غريبًا علي، بل صار معتادًا، رنين المحمول أبعدني عن النظر إلى المرأة وأولادها.

نعم... ماذا؟ حسنًا سأنتظر.

أسندت رأسي إلى مسند الكرسي، أغمضت عينيَّ وأخذت نفسًا عميقًا، دائمًا عظيمة قلت في قلبي.. ما أجمل النساء، ما أروع المرأة، ما أرهبها وما أحلاها، لا يهمها برد الشتاء ولا حر الصيف.

ماذا لو أدارت النساء مصر، فكانت أمًا لليتيم، وبيتًا للغريب، وملاذًا لـ اللاجئ.

ماذا لو مدت يدها فأطعمت الجميع، وغطت الجميع، وأمدتهم بالمعونة والتشجيع.

هل يمكن أن يحدث هذا؟

أن تكون وزيرة المالية، تدير الإنفاق في الدولة وتنظم الميزانية، أفلا تفعل هذا في بيتها؟ توفر من قوت يومها نقودًا للعلاج وللدروس الخصوصية ولحلوى لذيذة مصنوعة على قد الإيد.

أن تكون وزيرة للعدل، فتعطي الحق بإنصاف، ووزيرة للعمل توزع المهام والواجبات على أولادها، كي ينتظم السلوك ويُدار البيت الكبير أفضل إدارة.

ماذا لو مُنحت الفرصة لتكون وزيرة التربية والتعليم، لو أُعدت إعدادًا جيدًا وتوفرت لها الثقافة اللازمة، وأُخرجت خارج حوائط وممرات الجهل والتغييب.

ألم يقل أحمد شوقي عنها إنَّها مدرسة.

الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق.

المرأة نصف المجتمع، مجتمع بلا نساء يعاني من شلل نصفي، المرأة أم الرجال وصانعة الأبطال، اصنع المرأة كي تبني الوطن، امنحها الثقة، عضدها بالعزيمة، شددها بالدعم، واترك للرجال إدارة الشئون الخارجية وحماية البلاد وصد هجمات الأعداء، في هذا البيت الكبير، الوطن.

تحتاج صاحبة البيت أن تعود لتمسك زمام أمور بيتها.

نقرات على زجاج النافذة... أيقظتني من حلمي... كانت قطرات المطر قد بدأت تتقافز على زجاج سيارتي... لم يأت من كنت أنتظره اتصل بي معتذرًا بسبب المطر.

أدرت مفتاح سيارتي.. وجهزت نفسي للعودة إلى بيتي حيث الدفء والسكينة، وهنا في هذا البيت الكبير "الوطن" كانت في البعيد، حيث وميض نور الشارع الخافت.. في مدخل الزقاق امرأة تضم صغارها في حجرها والجميع غافٍ في هدوء.
الجريدة الرسمية