التأمين الصحي من اليسار إلى اليمين
تحتدم اليوم في تجمعات المهتمين بالصحة حرب ضروس حول مشروع قانون التأمين الصحى الاجتماعى الشامل، والغريب أن كل طرف يستخدم سلاحًا واحدًا من سلاحين لا ثالث لهما وهما الترغيب والترهيب.
الداعمون للمشروع يمنون المواطين بعلاج مجانى وخدمات متوافرة بجودة عالية والمعارضون يرهبون المواطنين من خداعهم لدفع مزيد من الأموال كاشتراكات دون وجود أي ضمانة على تحسن الخدمة في ظل عدم التعرض لأهم مشاكل المنظومة الصحية.
المشكلة أن تلك المعركة حامية الوطيس تحولت إلى حلبة للصراع السياسي والأيديولوجى بين السياسيين من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين رغم أن الجميع في مصر يحاول التخفى والتنصل من انتماءاته الأيديولوجية من أقصى اليسار الذي يطالب بكل شيء مجانى رافضًا مجرد المشاركة في مناقشة حول تمويل الخدمات والاكتفاء بإلقاء المسئولية على "الدولة" أو "الحكومة" وكأن الدولة ليست مجموع مشاركات المواطنين المباشرة وغير المباشرة في التنمية وهى حتى الآن ضعيفة لا تتناسب مع ما يمكن أن يقدمه 90 مليون مواطن..
وكأن الحكومة ليست مجموعة من المواطنين نعهد إليهم بإدارة المال العام لفترة مؤقتة وتحت رقابة من نواب الشعب.. وعلى النقيض وفى أقصى اليمين يقف من يرى أن الخدمات لمن يدفع وأن كل نفس بما كسبت رهينة.. الكفة في أرض المعركة وكعادة المعارك السياسية الاقتصادية الخدمية في الدول الفقيرة تميل حاليا إلى اليسار فما زالت كلمات المجانية والمواطن البسيط وغير القادرين أسلحة فتاكه في بلد أكثر من نصف شعبها يعيش تحت خط الفقر وقد ورث ثقافة الحقوق دون واجبات والمطالبة دون التزامات.
لكن هذا يزيد الأمور تعقيدا ولا يحل مشكلة التكلفة.. فالخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والمواصلات العامة والمياه والكهرباء وغيرها لها تكلفة باهظة، بل إن سوء التمويل هو أهم أسباب تدهور مستوى الخدمة وضآلة رواتب الملايين من العاملين بها ودون ضمان تغطية الخدمة نظل سائرين في هذه الحلقة المفرغة.
ويبدو أن نتيجة المعركة العالمية بين الشيوعية والليبرالية والتي أفضت إلى اتفاق غير معلن بأن الليبرالية الاجتماعية التي تضمن الحريات واقتصاديات السوق، وتراعى في ذات الوقت البعد الاجتماعى الذي يضمن ويحمى السلام المجتمعى هي الحل العملى فصارت أكثر الدول رأسمالية كالولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية تسعى بطرق مختلفة إلى أنظمة تضمن الخدمات الأساسية وخاصة التعليم والصحة لكل من يسعى للمشاركة في التنمية حتى وإن لم يتمكن من ذلك.. ولا أنكر أن أحد أسباب اشتعال المعركة هو عدم استباق المقترح بحوار مجتمعى يضع مبادئ لإصلاح النظام الصحى وتطبيق التأمين الصحى الاجتماعى ولا تناقض ما ورد في المادة 18 من الدستور ومن تلك المبادئ:
1-أن يكون لجميع المواطنين
٢-أن يكون ضد كل الأمراض
3-أن يتناسب الاشتراك مع الدخل شرط أن تغطى الاشتراكات تكلفة الخدمة بأسعار عادلة
4-أن تتولى الدولة اشتراكات غير القادرين (العاملين بدخل منخفض وغير القادرين على العمل والساعين لأى عمل دون جدوى)
5-جودة الخدمات المقدمة وهيئة مستقلة للرقابة على الجودة
6-فصل الهيئة الممولة عن الهيئات المقدمة للخدمة
7-ألا يطالب المشترك بدفع أي مساهمات وقت تقديم الخدمات الطارئة
8-أن تتناسب أي مساهمات أن وجدت مع الدخل وأن يعفى غير القادرين من المساهمات نهائيا
9-أن يكون نظام التأمين الصحى ومجالسه مستقلا كما تنص احكام الدستور للمجالس والهيئات المستقلة
10-أن يتم إصلاح النظام الصحى كما وكيفا كمرحلة انتقالية لتطبيق نظام تأمين صحى اجتماعى شامل يتم فيه وضع خطة تستهدف:
ا-ألا تقل نسبة المؤسسات الصحية العامة عن ٥٠٪ من مقدمى الخدمة الصحية حفاظا على الأمن القومى
ب-إصلاح أوضاع الفريق الطبى المالية والإدارية وصولا إلى أجر عادل مقابل تفرغ كامل
ج-إعادة هيكلة النظام الصحى بإنشاء المجلس الطبي المصرى الذي يضم هيئات التعليم والتدريب والتخصص - الترخيص- المنشآت الصحية- الجودة - الغذاء والدواء
وبعد التوافق على هذه المبادئ يبدأ النقاش بحيادية حول مستوى الجودة المطلوب وتكلفة الوصول من مستوى الخدمة الحالى إلى المستوى المطلوب إضافة إلى تكلفة استمرار تلك الخدمة وتوسعها بالتناسب مع الزيادة السكانية ثم تبدأ الدراسات الاكتوارية لحساب الاشتراكات اللازمة للتمويل.. إصلاح النظام الصحى والتأمين الصحى أمل يجيب ألا تقتله صراعات أيديولوجيه مغلفة بشعارات منتهية الصلاحية؛ لأن الصحة والتعليم يجب ألا يكونا مجالا للصراع السياسي والأيديولوجى وإنما محل للتوافق الوطنى.