رئيس التحرير
عصام كامل

من حمدي رزق إلى عبد القادر شهيب


نشرت الزميلة مجلة المصور في عددها الصادر بتاريخ 11 نوفمبر 2015، مقالا للزميل حمدي رزق تحت عنوان "عبد القادر شهيب.. القناعة كنز لا يفنى" أنشره كما هو ولا تعليق:


لم نتفق أبدا، كل منا في طريق، لكن ما جمعنا هو الاحترام.. كان أستاذا رفيقا لتلميذ شديد الإزعاج، فتحمله مثل ابنه شهدي أو أخيه الصغير الذي لم تلده أمه، وكان رئيسا فاحترم التلميذ الذي صار رئيسا ولم يتغير، جمع بيننا الشعر الأبيض فصرنا شيبا، كان ولا يزال هادئا كجدول ذي خرير، وكنت عاصفا كيوم من أيام أمشير، مدين باعتذار للشريف عبد القادر شهيب متعه الله بالصحة والعافية..

هو كان من كتيبة كتاب هذه الدار المعتبرة «دار الهلال»، لكن وراءه تاريخا طويلا من العمل والأمانة والشرف، لن ينل حظه من السطوع الإعلامي الزاعق، اكتفى بالقليل، ما ينفع الناس يمكث في الأرض، دوما قنوع ولم يطمع إلا في راتبه المتواضع، مفردات راتبه في نهاية خدمته في «دار الهلال» تبرهن على صدق حكمة قال صاحبها «القناعة كنز لا يفنى».

عندما انتقل عبد القادر إلى دار الهلال في ظروف قهرية، صبر على كثير، أعرف لولا أن أهلها أخرجوه ما خرج، وهو من تعلم في روزاليوسف الحروف كلها وعلمها لجيل من الصحفيين، برزوا جميعا ملء السمع والبصر وهو في قلايته الفقيرة، سعيد بشبابه في هؤلاء اللامعين، وإذا قابله أحدهم في الطريق سلم على الأستاذ، يجلونه ويحترمونه.

صبغته دار الهلال برصانتها، وصقلت معدنه الأصيل، وارتكن الكبير مكرم محمد أحمد على كتف عبد القادر خير سند، مخلصا كان، قابض على جمر المهنة، يمتن الحروف بسن قلم رفيع، ضاق به نفر قليل ولكن مخزون الصبر عند عبد القادر لا ينفد، جمل الحمول، في كل مرة كان يثبت أدبا واحتراما في مواجهة أعتى الظروف، قاد السفينة العتيقة في لجة بحر مضطرب، أوصلها إلى بر الأمان بأقل الخسائر، وسلم الأمانة إلى أهلها، استقال حبا في الدار وحفاظا عليها، ولم يتاجر باستقالته، ولا طلب الجزاء، عنوانه الدائم لا نريد منكم جزاء ولا شكورا.

سر عبد القادر في استقامته وشرفه وأمانته، لم يأكل حراما قط ولم يستحل المال العام سحتا، اختلف مع مدرسته الصحفية الهادئة لكن تحترم احترامه لمهنته، لم يتكسب من مهنته قط، ويروي عن تعففه الكثير من القصص، يعلمها زملاء أعزاء ممن في عمره المهني، واحتفظ ببعض منها مرويات عنه ليس هو من يرويها، عبد القادر يخجل من الإطراء ويأبى المديح، ويتخفى من الأضواء ولا يقول إلا ما يعتقد أنه الحق.

تاريخه في اليسار مشرف، لا خان ولا استكان، ويوم قرر السادات اعتقال الحادبين على ثورة الخبز في يناير ١٩٧٧، كان عبد القادر على قائمة التحفظ مع ثلة من المقدرين وطنيا، لم يتاجر بالوسام كثائر وخارج على النظام، غيره يتاجر بساعات في السجن للاشتباه، ويقول لما كنا في السجن، أو يتفاخر بالقول لما السادات اعتقلنا، لا يتاجر أبدا في الخسارة، ولم يطلب يوما نظير النضال، وعندما مرضت الراحلة زوجته تكفل بعلاجها من قوته الضروري، وهو قليل، لم يكفل أحد مشقة ولم يطلب من أحد عونا، ولم يقصر مع من عاشت معه على الحلوة والمرة بنت الثائر يوسف صديق، اختارت هذا الرجل زوجا وكان وفيا أيما وفاء.

حرص عبد القادر على أموال المؤسسة في دار الهلال وتقتيره من باب ضغط النفقات، وترشيد الإهلاك الممنهج لم يرض الباذخين، كان يتصرف في أموال الدار باعتبارها أمانة، وسلم الأمانة إلى أهلها كاملة غير منقوصة وعلى داير مليم، صفحة عبد القادر بيضاء من غير سوء، وكتابه بيمينه، لم يمار في حق اعتقده، ولم ينل من حظوظ الآخرين ولكنه قنع بما هو مقسوم.

لماذا تكتب عن عبد القادر الآن، الكتابة عن جواهر التاج فوق الرءوس لا تحتاج توقيتا، هذا مقال تأخر كثيرا في غمرة الانشغال، وكنت كاتبه مهما طال الزمان، لا يعرف الفضل، وهذا الرجل فضله كبير علمني حروفا وعلمني طريقا، ما دفعني إلى التعجيل بالكتابة المتأخرة عن عبد القادر، ما ينتشر الآن على الصفحات من كتابات تزعم حرب الفساد، وهو الرجل الذي نذر قلمه لحرب الفساد، وكله مسجل في الصفحات بامتداد المسيرة المهنية المشرفة لشهيب، ولست أنا التلميذ من أقيم مسيرة الأستاذ، ولكني كنت قريبا من قلم هذا الرجل وفي توقيتات كثيرة كنت قريبا من حياة هذا الرجل وتفاصيل معاركه، وهذا شرحه يطول.

تذكرت أستاذي عبد القادر شهيب مع تواتر حديث الفساد، وهو من نذر قلمه لحرب الفساد منذ نعومة أظافره الصحفية في مدرسة الهواء النقي «رزواليوسف»، قبل أن يغادرها إلى دار الصحافة الرصينة دار الهلال، حمل على كتفيه الضعيفتين عبء حرب شركات «توظيف الأموال»، برز فارسا رغم ضعف بنيته، وقف ماردا في وجه أخطر عملية لنزح ثروات الفقراء، وبجلابية وسبحة وبيع وهم الثراء في إعلانات ملونة تومض بالكثير.

وسجل معركته الظافرة في كتابه المهم «اختراق»، نموذج ومثال للتوثيق الصحفي الأمين، أعطى زملاءه كل ذي حق حقه، ولم ينقص أجر العاملين في هذا الملف الخطير، وهو ما دونه الراحل الكبير أحمد بهاء الدين في عموده يوم ضن نفر من المرجفين على فريق عبد القادر في روزاليوسف، بجائرة صحفية مستحقة، فنال جائرة أحمد بهاء الدين كتابة، ومثلها من أخبار اليوم، وجائرة مصطفى وعلي أمين، مؤمنين على صدقية هذه الحملة الصحفية الباهرة.

خفة التناول الصحفي لحرب الفساد الآن، أعادني إلى كتابات الكاتب الكبير عبد القادر شهيب وأفكاره ورؤاه عن مجتمع العدل والكفاية، لم أكن أراه جيدا، القريب لا يرى جيدا، البعيد يرى أكثر، وفاتني كثير من تعاليم الصحفي الكبير "يعيش المعلم ويتعلم"، وأنا من طالبي العلم على يد المعلمين، وشهيب كان معلما مدققا، الحرف مسئولية، والرقم أمانة، والكتابة تحيي وتميت.

"قانون الخدمة المدنية" يدلل على أن هذا المحلل الاقتصادي المعتبر، كان صادقا في حملته الممتدة بعمر سنوات عمره؛ لضبط «سيرك الأجور»، صك هذا التعبير وأصر عليه، وهو مسجل باسمه في كثير من الدوريات الصحفية، والكتابات الموثقة، كان ولا يزال يحذر من ألاعيب هذا السيرك قبل الطوفان في ٢٥ يناير.

وقانون الحد الأقصى والأدنى للأجور من مصكوكات عبد القادر المهنية، كان ولا يزال مدافعا عن الطبقة الوسطى، متخوفا من غول يقضم رغيفها، ومقالته لا تعض رغيفي «نموذج ومثال»، عبد القادر ينطلق في مهمته الصحفية من أرضية يسارية، تؤمن بالعدالة الاجتماعية وحق الفقراء في الغذاء والدواء والكساء، ويخشى على المهمشين أن يدهمهم برد الشتاء وهم لا يملكون ما يستر عريهم، ويتعذب مع مساكين المرضى أن تشدد عليهم عذابات المرض وهم أحوج ما يكون إلى حبة برشام.

ومن الأمانة أن أعترف بتقصير في حق هذا الرجل، الذي كان يفرمل الجموح ويرشد الطموح، ويمتن الحروف، أذكر قلمه «الرينولدز» ذا السن الرفيع وحروفه الصغيرة، وتأكيده على النقاط فوق الحروف حتى لا يضيع المعنى، للأسف ضاعت المعاني وبقى المعدن، معدن نفيس، شهيب الكاتب الكبير يكتب جوارنا في هذه المجلة التي تحتضن هذه السطور، ونعم السطور يكتبها شهيب، فاقرأوا سطوره جيدا إذا كنتم عازمين على حرب الفساد.
الجريدة الرسمية