رئيس التحرير
عصام كامل

زيارة إلى بيت الناس


{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } (آل عمران96)
الطريق إلى بيت الناس هو ذاته طريق الخروج من قيود الحياة.. وأنا في طريقي إلى بيت الناس.. أنقي ذاتي الآن من براثن الارتباط بالدنيا؛ لعلىّ أصعد إلى ماهو أعلى من الدنيا.. عند الميقات بدأت أولى خطوات الموت.. خلعت عن نفسى كل أسباب العنصرية، ألقيت بقميص من ماركة عالمية كنت قد اشتريته لوجاهة تميزنى، خلعت بنطالا من قماش نادر كنت أحضر به الاحتفالات الرسمية، أسقطت الاسم والوظيفة والعائلة.


خلعت كل مايميزنى، خلعت عنصريتى وقبيلتى، خلعت "نفس" الدنيا وبقيت أتحضر للآخرة، خلعت جسدى، لحمى وعظامى، شهوتى ودنيتي، باختصار خلعت بدنى، وبدت لى روحى أكثر تواصلا معى.. لففت مابقى من هيكلي الدنيوى برداء الموت، وضعت كفنى على بقايا الحياة، أحرمت.. وملابس الإحرام كفن لا تمايز فيه.. قطعتان من القماش الأبيض يلفان الوزير والغفير.. الملك والصعلوك.. الغني والفقير.. في أزياء الموت نعود جميعا إلى ماقبل قابيل.. نعود إلى "نحن" وتسقط عنا الأنا.

هانحن نمضى في أكفاننا، لم أعد أنا، لم أجد أنا، تاهت الأنا في هذه الأمواج الهادرة من البشر المنتمين إلى العائلة الإنسانية، نمشي هنا، نمضي هنا، نقف هنا، نجلس هنا، ننام هنا، وهنا نصحو، هنا نتضرع، وهنا نتجمع، وهنا نهرول، أصبحنا جمعا وسقطت منا الأنا، سقطت مع البدن، موتى نسير إلى الله، موتى نمضي بأرواحنا.. موتى ندرك معنى الحياة، وأحياء نعىّ فلسفة الموت.

ولأنك ميت الآن، فقد حرمت من كل صنوف الفعل الجسدي، أنت روح.. وعليه فلا عطر اليوم استعمالا أو استنشاقا، فالعطر يذكرك بأوقات ممتعة في الماضي الذي انفصلت عنه، لاتؤذ حيوانا، لاتقتل حشرة، فالموتى لايقتلون، ولايؤذون، لاتقطع نباتا، ولاتخلع شجرا، فأنت وأنت ميت تنتزع منك كل صنوف الإيذاء ونوازع الشر، لاتصطاد من البحر، ولا تأكل من صيد اصطيد لك، فقد أصبحت بعد الموت رحيما.

اجتنب النساء والجماع بعد أن أصبحت روحا بلا جسد، لاتقسم، لاتبغض، لاتفسق، ولا تلعن، لاتغطي رأسك، لاتحلق رأسك، لاترتدي حذاء ولاجورب، لاتقلم أظافرك، أنت الآن قد دخلت حالة الإحرام، أصبحت جزءا من جماعة أسقطت عنها كل صنوف الشر الدنيوي، أصبحت الآن آمن في وسط آمن، لاصيد فيه ولافسق ولا عصيان، أنت الآن واحد من أسرة أبدية لاتمايز فيها.

ولأنك محرم، ميت، جزء من الحياة الأخرى فليس أمامك إلا خالقك، ردد من قلبك وأنت في الطريق إليه: لبيك اللهم لبيك.. لبيك لاشريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك..لاشريك لك.. تحول إلى قطرة في البحر الأبيض.. طائر في سرب يمضى ليس له غاية ولا قائد إلا صاحب الملك، ها قد اقتربنا جئنا من كل فج عميق، يتوقف نداء التلبية عند رؤية الكعبة، الصمت يلف المكان، تمتمات من الدعاء والرجاء، خليط الحناجر يموج وسط هالات من الخشوع النورانى حول بيت الله أو بيت الناس.

عند الميقات انحدرنا إلى الموت، وأمام الكعبة ارتقينا، بعثنا من مرقدنا؛ لنبدأ رحلة اللقاء مع الله، الذي تراه في مناسك القصد، تراه من خلال المنهج، تراه في مخلوقاته التي تسبحه بكرة وأصيلا، تذكر أنك هنا تدور حول الكعبة، والكعبة ليست بناء معماريا مزدانا بصنوف الفنون، إنها من الحجر الأسود، بناء ليس هناك أبسط منه، إنها الرمز الذي تتجه إليه في صلاتك، في دعائك، حتى بعد الموت نتوجه إليه في رقدتنا الأخيرة.. هي الرمز وطريق الاتجاه.. على شكل المكعب بنيت، والمكعب هو الوحيد الذي لا اتجاه له.

حولها ندور ونتحرك، نذوب في بحر الأبيض الهادر حولها، حركة لا توقف فيها، دوران حول المنتهى، من الكعبة نبدأ، ومنها نعرف الاتجاه، حركة الكون التي لا تتوقف، حركة الكون كله حول الله، كتلات من البشر المتساوين يدورون حول البيت، يصبحون قطرات في النهر، كما يقول الدكتور المفكر على شريعتى:

«هنا يتأكد معنى الجماعة الحق وتتجلى صورة العالمية.. الناس خارج الكعبة يتمايزون بأسمائهم، وألقابهم، وأجناسهم، وقومياتهم، وداخل الكعبة تختفى كل الخصائص، ويحل محلها مفهوم الجماعية والعالمية، وبهما وحدهما يمكن أن تجد للناس تعريفا».
..هكذا جئنا وعند العودة إن قدرت لنا عودة نكمل رحلتنا إلى بيت الناس.
الجريدة الرسمية