رئيس التحرير
عصام كامل

بشير عياد.. انتقال من الدنيا إلى العليا


الموت هو الرحيل الثانى والأخير.. رحيلنا الأول عندما نغادر أرحام أمهاتنا.. من دنيا تحكمها قواعد الإجبار على الحياة بنمط محدد إلى دنيا نتمتع فيها ولو وهميا ببعض الخيارات.. بعدها نغادر إلى عليا ليس فيها تدن.. هكذا يكون الموت.. لحظة الانتقال من الدنيا إلى العليا.. وهكذا انتقل بشير عياد.. كما كان متألقا في دنياه نحسبه إن شاء الله متألقا في علياه.


قبل أيام من انتقاله الأبدى تواصلنا عبر الهاتف بعد انقطاع عن حضوره الطاغى وصوته الذي كان يملأ صالة التحرير صخبا رقيقا جميلا، رقراقا عذبا.. وصف لى وبشكل دقيق كعادته ما يعانيه وطلب منى أن أكتب ما يمليه على.. كتبت أسماء أدوية وبعض فقرات من تقرير طبى وأصدر أوامره بأن أتصل بصديقى طبيب الكبد الشهير وأطلعه على الحالة.. كأن كلمات بشير وداع متخم بالأمل وكان يتحدث عن كبده باعتباره صديقا تعافى وعادت إليه الحياة.. أغلقت الهاتف.. اتصلت بصديقي.. شرحت له الأمر.. أجبته عن أسئلته.. فاجأنى: لا تذهبوا به إلى أي مستشفى.. إننا في انتظار قرار السماء.. لم أتصل ببشير غير أنى لم أفقد تواصلى مع أشعاره التي كان يرددها.. مع كتاباته التي كانت سياطا في وجه الظلم.. قفشاته ضد الجميع حتى هو لم يسلم من قفشاته عن نفسه!!

صديقى عامر محمود -نائب رئيس التحرير- أبلغنى صباحا بالحدث الجلل.. الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.. هكذا اعتدت أن أردد كلما فقدت عزيزا.. استقليت السيارة وصوت بشير عياد يؤنس وحدة قد تطول.. أعبث بمؤشر الراديو باحثا عن صوته في واحدة من حلقاته متحدثا عن صديقته وملهمته ومعشوقته أم كلثوم.. ربما أسمع صوته زائرا عبر الهاتف يصحح للزملاء على الهواء وفى رقة بعض المعلومات.

ربما نفتقد سطوره على صفحات فيتو التي أطل منها ومع عددها الأول إلى عشاقه، وما أكثرهم.. ربما أفتقد مناقشاته الواثقة.. ربما أفتقد ريشته وهو يكتب مقاله وكأنما يرى في الحروف مخلوقات تحيا يرسمها لا يكتبها.. حديثه عن مفردات العربية.. دقته اللا متناهية.. قد افتقد الكثير غير أنه ترك لنا قيما تظللنا من حر العوز الثقافى والحاجة إلى سطور حاسمة كان هو صاحبها وكاتبها وعاشقها.

انتقل بشير الانتقال الأبدى إلى العليا غير أن رائحته ستبقى.. سطوره تبقى.. أعماله تبقى.. صولاته وجولاته حية لم تنتقل معه.. أشعاره العذبة تظل دوما بين جوانحنا.. مات الجسد وتمكنت الروح من تحقيق قفزة إلى علياه التي كان دوما يتحدث عنها بأمل.. بحسن ظن في خالقه.. اللهم أفرغ علينا صبرا واجعلنا من الصابرين.
الجريدة الرسمية