مأساة جريدة التحرير لن تكون الأخيرة !
جاء توقف الإصدار الورقي لجريدة التحرير مؤكدا لتوقعات الكثير من المتابعين من خبراء ومحترفي العمل الإعلامي والصحفي الأسوياء، الذين أدركوا ومنذ البداية أن كيان الإعلام الخاص، وبالطريقة والأهداف غير الواضحة التي أسس من أجلها، أدركوا أن هذا الإعلام لن يكون قادرا على الاستمرار، وهو ما كان ينذر بمأساة كبرى تتمثل في الاستغناء عن أعداد كبيرة من العاملين وفي إهدار الكثير من الاعتمادات المالية الضخمة التي أنفقت في تأسيس كيان الإعلام الخاص، ورغم هذه التحذيرات إلا أن أحدا -من الدولة أو من ملاك المؤسسات الإعلامية الخاصة على حد سواء- لم ينشغل بالتفكير ومحاولة تلافي تلك النتيجة المحتومة أو التقليل من تداعياتها المنتظرة!
الحادث أن المتابعين انتبهوا -وخصوصا بعد ثورة يناير ٢٠١١- إلى نشوب صراع أشبه بحرب محمومة كان يخوضها العديد من رجال الأعمال من أجل امتلاك وسائل إعلام، مطبوعة أو مرئية أو مسموعة، سواء بتأسيس قنوات تليفزيونية أو صحف جديدة أو بشراء وسائل إعلامية قائمة بالفعل، وكان لافتا خلال هذه الحرب أيضا أن رجال الأعمال من ملاك القنوات والصحف، المؤسسة منذ قبل ثورة يناير، قاموا بضخ استثمارات مالية كبيرة جدا في المؤسسات التي يملكونها، وكانت التكلفة المالية باهظة جدا تلك التي تكبدها، أولئك وهؤلاء، الراغبون في يكون تملك وسائل الإعلام نشاط رئيسي ضمن الأنشطة التي يمارسونها.
ورغم عدم وجود تقديرات رسمية لحجم الاستثمارات التي تم إنفاقها فيما يطلق عليه الإعلام الخاص، إلا أن الحسابات المنطقية تشير إلى أن حجم ما تم إنفاقه في هذا المجال، تجاوز في أقل التقديرات عدة مئات من الملايين وربما آلاف الملايين من الجنيهات!
ورغم هذا الإنفاق الضخم إلا أن الإعلام بوسائله المختلفة يوما بعد يوم، بات غير مؤثر في الرأي العام، وخصوصا الإعلام الخاص، ذو الصوت الأعلي والانتشار الأوسع، مقارنة بالإعلام المملوك للدولة، وباتت وسائل الإعلام جميعها محل انتقاد وانصرفت عنها قطاعات كبيرة من المجتمع، بعد أن جنحت -بقصد أو بدون- إلى السقوط في هاوية اضمحلال الفكر وفراغ المحتوى، والاهتمام بقضايا يغلب عليها أمور ضيقة لا تمس جموع الناس.
وكان حتميا مع هذه الاختلالات الواضحة في العلاقة بين صناع الإعلام وجمهور المتلقين من المشاهدين أو القراء، أن تتعاظم الخسائر المالية يوما بعد يوم، خصوصا مع عدم انتباه القائمين على وسائل الإعلام الخاصة إلى ضرورة التوقف لالتقاط الأنفاس وإعادة دراسة الموقف من كل جوانبه واكتشاف أسباب عدم النجاح، وقد تابعنا خلال الأشهر الماضية تراجعات حادة في حجم الإنفاق وإغلاق بعض القنوات وإنهاء عقود أعداد كبيرة من الكوادر الفنية والمهنية في عدد ليس بالقليل من مؤسسات الإعلام الخاص، ورغم هذا التقليص في الإنفاق إلا أنه "تحت الرماد النار" كما يقولون في العبارة المأثورة، فالعديد من المؤسسات الإعلامية التي لاتزال مستمرة لا تسدد الرواتب للعاملين بها بانتظام، منها ما يصرف الرواتب كل بضعة أشهر، ومنها ما توافقت الإدارة مع العاملين بها على تقسيط المرتبات المتأخرة، ومنها ما أوشكت على التوقف عن العمل تماما خلال أسابيع أو أشهر قليلة جدا!
وأصبح قرار ملاك جريدة التحرير بوقف الإصدار المطبوع للجريدة، بمثابة قمة جبل الجليد الذي سوف تتبعه وبلا أدنى شك توقف العديد من وسائل الإعلام الخاصة عن العمل أو الصدور، وهو ما سوف يصيب كيان الدولة في مقتل، كما سيخلف مآسي تتمثل في المئات وربما الآلاف الذين سيفقدون وظائفهم ومصادر أرزاقهم، دون ذنب أو جريرة، ولم يفعلوا سوي أنهم مارسوا مهنة أحبوها وانتسبوا لمؤسسات لم يتخيلوا يوما أنها بلا رقابة أو التزام مهني أو أخلاقي.
الشيء المحزن أن الدولة بكل مؤسساتها واصلت إحجامها عن التدخل في هذه الأزمة، ولم يصدر أي رد فعل إلا من نقابة الصحفيين التي أصدرت بيانا مليئا بالكلمات والشعارات الجيدة، قابلها مالك جريدة التحرير بتصريحات خاصة لـ"بوابة الأهرام قال فيها: "أنا مبسوط بتعاطف النقابة مع الجريدة، لكن عمليًا قرار العدول عن إغلاق الجريدة غير قابل للتطبيق، والنقابة طالما شايفاها منبر - يقصد الجريدة - تدفع هي"!