ادعوا لجمال الغيطاني
في سمرته الطاغية بعض ملامح أهل جهينة التي قدمته للإنسانية رسول محبة ونبي تسامح وملاك رحمة.. وفي صوته الحاني تنصت إلى الراوي المصري القديم تخرج الحكايات من فيه، محملة بذهب السنابل طارحا للغلابة قمحا وعسلا وزهرا، وفي زخرف كتاباته وصدق رواياته ترى مصر بكل عنفوانها وضعفها، شبابها ونضجها، عتمتها وفجرها.
إنه جمال الغيطاني الذي يرقد الآن في غيبوبة لن تغيبه عنا ولن تبعده عن عشاقه، ولن تكون سوى سحابة حالت بين شمسنا وزرعنا، ثم سرعان ما تمضي تاركة لنا أشعة النور التي لا تخبو أبدا، فادعوا معنا لصاحب القلم الذي ضمد الجراح وخاض الحروب، وكتب على نفسه الشقاء من أجل أن يشفينا بقلمه وقلبه وكل جوارحه.
والغيطاني هو ذلك المصري الذي عاش الحياة بكل ألوانها.. عاش رساما.. قارئا.. سجينا.. محاربا بالقلم في سيناء.. ومعتقلا؛ حبا في الوطن وحاميا لصناع وفناني خان الخليلي، وباحثا عاشقا في التراث، وقلما يطلق قذائفه عندما يريد وينشر حروفا من نور عندما يقرر.
والغيطاني صحفيا، هو الخاسر من أجل لقمة عيش.. أما الغيطاني أديبا، فهو العاشق حتى الثمالة.. تقرأه مجددا في فن القصة المصرية مع "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، وقارئا للمستقبل في "حراس البوابة الشرقية"، وغارقا في فلسفة الحياة وما بعدها في التجليات وعربيا خالصا في "منتهى الطلب إلى تراث العرب".
قبل أيام كنت أطارد مخاوفي عليه، عندما نشرت الزميلة الصحفية النشطة ميرنا بالقسم الثقافي، خبر تعرض كاتبنا الكبير للتسمم.. تابعت حالته من خلال النشر دون أن أقوى على محاولة طلبه.. طاردت كل شياطين الخوف داخلي.. تبددت هواجسي عندما أرسل هو بنفسه رسالة على تليفوني فيها اسمه فقط.. اتصلت به.. كان متماسكا رغم وجوده بغرفة العناية المركزة، وكان منزعجا لأن خبرا منشورا على بوابة «فيتو»، قد يفهم منه إغلاق المحل الذي تناول فيه مع أسرته طعاما فاسدا بسببه.
كان هذا هو جمال الغيطاني الإنسان.. في قمة الأزمة يرى نفسه إنسانا عاديا، قيمته أنه إنسان وليس كاتبا كبيرا تغلق بسببه المحال.. كان الرجل منزعجا أكثر عندما عبر لي في كلمات قليلة عن قلقه على أسرته.. قال: كدت أفقد أسرتي كلها في لحظة بعد أن تناولنا الطعام.. كان ممتنا لله شاكرا حامدا، أن أنقذتهم العناية الإلهية من موت محقق.. اعترفت بأن أطلت عليه في الحديث كي أطمئن أكثر.. كان واعيا بكل شيء متحدثا بنفس نبرات الصدق التي لا تفارقه أبدا.
صححت الخبر الذي كان سببا في أن أطمئن عليه، وأرسلته على تليفونه فكلف نفسه رسالة شكر.. هذا هو الأديب.. الإنسان.. المقاتل.. الباحث المدقق.. الصحفي.. المراسل الحربي.. الإنسان القادم من أعماق الصعيد ليغرق في أعماق المحروسة.. ادعوا معي أن يعود إلينا من سفرته الذهنية إلى حضوره الطاغي مرة أخرى.. اللهم آمين.