رئيس التحرير
عصام كامل

أقل من اعتذار


دائماً هناك ما هو أقل من اعتذار وأكثر قليلاً من نقد الذات الذى لا يصل حد تجريمها عندما يتعلق الأمر بالاستعمار والتحرير . هذه الثنائية شبه الخالدة، مادام هناك قوى يفيض عن حدوده ويتمدد باتجاه الآخرين، ومادام هناك ضحايا لهذا التمدد لا يستسلمون.


وهذه ليست المرة الأولى التى يُطالب فيها شعب اسْتُعمر واستبيح لأكثر من قرن وربع القرن بالاعتذار، إنه الشعب الجزائرى الذى تضمّخت ذاكرة أجياله بالدماء، ولم ينس من دفعوا مَهْر استقلاله وهم أكثر من مليون شهيد وشهيدة.

عندما زار ساركوزى الجزائر أثيرت المسألة ذاتها، وهاهى الآن تعود مع فرنسوا هولاند الذى وضع إكليل ورد على نصب الشهيد، ثم اعترف أمام البرلمان الجزائرى بما ألحقته بلاده من أذى بالجزائريين.

لكن هذا الاعتراف ليس اعتذاراً، رغم أن هولاند لم يكن لديه مانع قبل وصوله إلى الإليزيه من الاعتذار، لكنه الآن يمثل فرنسا كلها بيمينها ويسارها وليس حزبه فقط.

ولا ندرى لماذا تتردد بعض الدول فى تقديم اعتذارات رسمية عما اقترفت بحق الشعوب التى عانت احتلالها، هل هو العبء الأخلاقى أو الاقتصادى؟ حيث ثمة تعويضات لا بد من تقديرها ولو بشكل تقريبى عن خسائر الضحايا، رغم أن الدم لا يعادله أى مال.

وحين كتب ألبير كامو روايته الشهيرة بعنوان “الطاعون” عن احتلال فرنسا للجزائر، التى تدور أحداثها فى مدينة وهران، أفسد الكاتب اعتذاره عندما جعل من أسماء الأبطال فى روايته أسماء فرنسية خالصة، أو هذا على الأقل ما قاله قس أيرلندي عندما قرأ الرواية. 

وحين يقف أى عربى يزور الجزائر فى حى القصبة وهو من أبرز مسارح المقاومة فى العاصمة، أو يتجول فى أحياء مثل بلكور أو باب الواد، أو يذهب إلى وهران، يفقد على الفور إحساسه بأنه مجرد سائح، فالذاكرة القومية مُشبعة هى الأخرى بتلك الذكريات، ولا نظن أن الشعوب يمكن لها أن تطلب من الله العفو عما سلف إذا كان هذا الذى سلف قد امتصّ حتى نُخاعها، وأعاقها عن النمو عقوداً، وحاول أيضاً أن يُعْوِج لسانها، فمشكلة التعريب فى الجزائر لم تنته فصولها بعد، واستعادة الهوية ليست سياسية فقط إنها من صميم الثقافة واللغة والذاكرة.

المطلوبون للاعتذارات فى هذا الكوكب كثيرون، لكن منهم من أخذته العزة بالإثم، ومنهم من لا يريد فتح ملفات مهجورة لأنها مبقّعة بدماء آخرين، رغم أن التوازن الأخلاقى والتعبير عن سلامة النوايا يتطلب مثل هذه الاعتذارات، لأنها مزدوجة فمن يعتذر للآخرين عما ألحقه بهم إنما يعتذر لنفسه أيضاً بعد أن زعم أمام الملأ أنه تغيّر وأصبح مؤهلاً لإقامة علاقات ندية مع كل شعوب الأرض.

لكن يبدو أن هناك حسابات خاصة وشبه سرية لدى من يرفضون الاعتذار سواء كانوا أمريكيين عمّا ألحقوه بإفريقيا، أو بريطانيين عن كل ما اقترفته الإمبراطورية قبل أن تَشيخ وتتساقط أسنانها.

الاعتذار دليل قوة وليس تعبيراً عن ضعف، وهو إذ يبدأ من سطر جديد إنما يغسل ذاكرته الآثمة، أما إذا كان هناك بُعْدَ تربوى وقومى يحول دون تقديم الاعتذارات فتلك حكاية أخرى، لعلها متعلقة بما تقدمه الدول فى مناهجها التعليمية عن تاريخها، وقد سبق لمفكر فرنسى أعلن إسلامه وعوقب على ما كتب ضد الصهيونية هو غارودى أن اعتذر بشكل شخصى عن الطريقة التى يُقدم بها التاريخ العربى فى مناهج التعليم الفرنسية، لكن مثل هذه الاعتذارات لا تشمل أُمة أو دولة، وتبقى فى نطاق ثقافى وأخلاقى فردى.
نقلاً عن الخليج الإماراتية
الجريدة الرسمية