رئيس التحرير
عصام كامل

فكروهم بالملكية.. وحكم العسكر!


نعيش هذه الأيام مزاجا سياسيا جديدا من نوعه.. سواء في انتشار السخط على كل من جاء لمصر بعد سقوط الملكية أو تحميل اللعّنة برمتها تحديدًا للرئيس الراحل جمال عبد الناصر.. خاصة في ظل "تلغيم" مواقع التواصل الاجتماعي بمذكرات شخصية لبعض المعارضين لناصر.. وبصفة خاصة كتاب الرئيس الأسبق محمد نجيب، كنت رئيسًا لمصر، والذي يحُمل فيه عسكرة الدولة المصرية لجمال عبد الناصر ورفاقه.. فضلًا عن مذكرات اللواء صدقي الغول الذي حُكم عليه بالسجن خمسة عشر عامًا لا لشيء إلا لتضارب القرارات العسكرية.. والرغبة في تحميل الرجل مع آخرين فاتورة نكسة 67.. وهي مذكرات وأقوال موجودة منذ سنوات طويلة.. ولكن المثير أنها تتداول هذه الأيام بشغف ملفت يدعو للتآمل والتدبر !


1
الدلالات السياسية والاستنتاجات تقودنا حتمًا لفك رموز ما بين السطور خلال هذه الحقبة الزمنية شديدة الخصوصية والتعقيد خاصة أن الكتابات الموثقة قبل 23 يوليو لم تلخص إلا أوضاعا مزرية للمواطن المصري.. وحتى الكتابات التي يستند إليها الناقمون على 23 يوليو والتي تتحدث عن أمجاد الاقتصاد المصري أيام الملكية ووقوع المحتل الإنجليزي الغاصب تحت رحمة الحكومة المصرية بسبب ديونه لها.. لم توّصف حال الفلاح المصري وقتها ولم تشرح لنا حال العدالة الاجتماعية ومستوى التعليم والصحة للعوام ومدى انتشار هذه المكونات الأساسية للحياة في كل ربوع مصر، بالأدلة والوثائق !

2
وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع آليات تطبيق أهداف يوليو التي أعُلنت وقتها مرورًا بالممارسات التي جففت منابع الفكر والحرية في مصر والتي تأسس عليها كل الكوارث التي نحياها الآن.. إلا أن تبيض وجه الملكية شيء غير مفهوم وصادم ومن وجهة نظري قد يكون مناسبًا لفض هذا الاشتباك الآن كل من عايش قصة أو حكاية حقيقية شاهدة على ما قبل ثورة يوليو عليه التحدث وتوضيح الصورة للأجيال الجديدة.. لماذا ؟.. لأننا أصبحنا نعيش حالة غريبة من " التجبر" ـ في أغلب الأحوال بحسن نية ـ على ثورة 23 يوليو ومن قاموا بها.. ولهذا سأبدأ بنفسي ولن أتحدث عن يوليو بطريقة تقليدية.. لكن سأتحدث بشهادة واقعية عن ضحايا للملكية من الطبقة الأرستقراطية نفسها !

3
جدي لوالدي كان حاصلا عام 1923 على شهادة "العالمية" من الأزهر الشريف وهي ما تعادل درجة علمية رفيعة حاليا لا أعلم إن كانت دكتوراه أو ماجستير.. المهم أنها كانت من أعلى الدرجات العلمية في مصر من وقتها وحتى الآن.. وكان له عمود خاص وطلبة يتعلمون على يديه بالنظام القديم في الأزهر، بحسب ما قيل لي من روايات متواترة، ووفقًا لشهادته العلمية التي كانت تلتهم نصف حائط صالة منزل العائلة القديم!

ورغم كونه عالمًا.. تنكرت له مصر الملكية بعدما أصيب بمرض نادر لم يتمكنوا من تشخيصه بسبب قلة حيلة الطب وقتها فأقعده عن العمل.. ولعدم وجود مظلة تأمينية وقتها تكفل حتى كبار العاملين بالدولة وتراعي مبادئ العدالة الاجتماعية.. حصل جدي على مكافأة نهاية خدمة في بداية الثلاثينات، المتاح فقط وقتها، فلم تكن هناك معاشات حتى لكبار الموظفين.. حيث أدخلها عبد الناصر بعد الثورة وتطورت لتصل للشكل الذي باتت عليه الآن !

عاد جدي لقريته طريح الفراش.. وبسبب عدم حصوله على معاش يوفر له مقومات الحياة التي تعود عليها وبحثا عن علاج يعيده للدنيا من جديد ولوفاة والده الذي كان يرعي له أرضه وعدم إلمامه بالزراعة ودروبها باع كل أرضنا، بملاليم، بمقاييس الزمن الحالي.. خاصة أن قدرة الشراء واكتناز الأموال وقتها لم يكونا أمرين متاحين إلا لفئات قليلة جدًا وهو ما ساهم في ابتزاز الرجل القعيد من سلالات الطبقة الرأسمالية المستبدة.. التي يبكي على أطلالها الآن منظرو الملكية الجدد !

وفي ظرف سنوات تحول جدي ونسله من خلفه لعقود من طبقة أرستقراطية.. لطبقة أقل من المتوسطة.. وعشنا أياما أسود من طربوش الملكية الزائف.. وكانت حكاية جدي مثار تساؤلات برأسي لم تهدأ حتى الآن.. وكلما قابلت أحدًا سواء من العائلة أو خارجها حكى لي عن أمجاد جدي الذي كان أحد ثلاثة فقط في، بلد بأكمله، ممن استطاعوا أن يتحصلوا على شهادة علمية من التعليم العالي.. أتمخض حزنًا وألمًا.. وأغفر لناصر كل سوءاته مع أني من أشد المعارضين لمحاولات تدجين المجتمع المصري وتسفيه شخصيته وهي الممارسات التي اقترنت بنظام يوليو وخلفائه على مدى العقود الماضية !

حكاية جدّي شهادة عملية على ما كان يحدث أيام الملكية.. وكما قلت إني من الناقمين على المحاولات المستميتة لعسكرة الدولة المصرية منذ ثورة يونيو وحتى الآن.. ولكن من يرى مصر قبل "يوليو" من عدسة القصور والموضة التي كانت "تنزل القاهرة قبل باريس" لا يرى الصورة على حقيقتها.. ويزيف هو الآخر تاريخا بشعا من العبودية والامتهان لكرامة السواد الأعظم من المصريين.. فمصر الملكية لم تكن في مجملها طابورًا من النبلاء.. عملاء "شيكوريل" و"بنزيون" !

أعطوا كل ذي حق حقه.. انتقدوا الطالح.. وميزوا الصالح.. فالقراءة الانتقامية للتاريخ لن تُجدي.. رحم الله ناصر وغفر الله لنا وله !

الجريدة الرسمية