رئيس التحرير
عصام كامل

الدكتورة هدى جمال عبد الناصر تكتب: مأساة المشير

الدكتورة هدى جمال
الدكتورة هدى جمال عبد الناصر

- الرئيس تخلى عن الحكم في 8 يونيو 67 وبعد عودته قال: "لم أكن مقتنعا أن عودة عبد الحكيم إلى القوات المسلحة ممكنة أبدا"
- "عبدالحكيم" لم يكن صاحب فكرة الانقلاب أصلا وجلال هريدي أقنعه بها.. وتجمع المدنيين في بيته "نزوة عابرة"

- صلاح نصر منع التقارير اليومية التي ترسلها المخابرات العامة لمكتب "ناصر".. ورئيس "الأمن القومي" كان يزور المشير بشكل يومي

يثير دائما موضوع انتحار المشير عبد الحكيم عامر الجدل، ويستخدم من جانب أعداء جمال عبد الناصر في الهجوم عليه، وينسى الجميع تفاصيل الأحداث وصراع السلطة بعد عدوان ٥ يونيو ١٩٦٧، وبعد رجوع عبد الناصر بناء على طلب الجماهير في ٩ و١٠ يونيو.


وفيما يلى تفاصيل كل تلك الأحداث على لسان جمال عبد الناصر في اجتماع مجلس الوزراء ١٧ سبتمبر ١٩٦٧ (الجلسة كاملة على موقع www.nasser.org).

آسف لما وصلت إليه الأمور، ولقد حاولت بكل الوسائل أن أتلافى ما حدث، والحقيقة أننى لم أتدخل إلا عندما حدث اتصال بالجيش، ولقد حدث قبل ذلك اتصال بالمدنيين، وقلت: لن أتكلم!

لقد كان عبد الحكيم لى أكثر من أخ، لكن الحقيقة لقد كنت أريد أن أترك السلطة، لأن بعد ما حدث يوم 5 يونيو كان لازم كلنا نمشى! الوضع الموجود هو وضع غير طبيعى، لأن بعد الهزيمة التي حدثت كان لازم يتغير النظام، وتتغير الدنيا، ده بيحصل في كل العالم، والحقيقة بعد العودة في ١٠ يونيو، لم أكن مقتنعًا أن عودة عبد الحكيم إلى القوات المسلحة ممكنة أبدا، وأنا قلت له هذا الكلام يوم ١١ يونيو، ولم أكن مستعدًا للحلول الوسط compromises، لكن رغم هذا، قلت له: يرجع نائب رئيس الجمهورية، وبعد أن رفض، قلت له: تظل في اللجنة التنفيذية العليا، ولا داعي للقطيعة!

تصفية محاولة الانقلاب:
لكن حدثت تحركات الجيش، وجب عليّ التصرف، وكان ذلك صعبا عليّ جدا، وقد اجتمعت والإخوان معه لأكثر من سبع ساعات في منزلى يوم ٢٥ أغسطس، وتناقشنا حول ما حدث بالنسبة للجيش، وكنت قد اعتبرت تجميع المدنيين نزوة عابرة ثم تنتهى، وأستطيع أن أحتملها، ولم أواجهها بشيء، على كل حال هذه إرادة ربنا، ولكن بالنسبة للقضية المرتبطة بموضوع المشير لازم تعرض على المحكمة، ويتم محاكمة كل المتورطين، ولا يمكن التراجع في هذا.

وعبد الحكيم لم يكن صاحب فكرة الانقلاب أصلا، بل هو جلال هريدي الذي أقنعه بها، وجاء هذا في الاعترافات التفصيلية لأحمد عبد الله، الذي كان مكلفًا ليقوم بالعملية الأساسية في خطة الانقلاب.

ومن الأمور التي أحزنتنى دخول عباس رضوان في الموضوع، فلما بدأ جلال هريدى يعترف -هو أول واحد اعترف.. واعترافا كاملا- جاءت سيرة عباس رضوان في الموضوع، لقد أبلغ عن ضابط مدرعات من الفرقة الرابعة أحضره ضابط من عند المشير الذي أرسله إلى عباس رضوان، وطلب منه معلومات عن قيادات الفرقة الرابعة، وقيادات المدرعات، وقيادات الألوية وأمكنتها، وقد أحضر له الضابط كل طلباته!

طلبت عباس رضوان بالتليفون، وقلت له: سيرتك جت في التحقيق، فاعترف أنه فعلا قابل ضابط المدرعات، لكنه تكلم معه فقط كلامًا عموميا، ولقد أخذت كلام عباس كقضية مسلمة، وقلت: قد يكون أُحرج.. وهو على علاقة بعبد الحكيم.

يوم الجمعة ٢٥ يونيو اتصلت بعباس رضوان، وطلبت منه أن يذهب إلى منزل المشير بالجيزة، ويحاول أن يعتقل الضباط هناك، وإذا رفضوا يخرج عيلة عبد الحكيم من البيت، لأن ممكن أن يحدث اشتباك في أي وقت، وكان الفريق فوزى هناك.

أخبرنى عباس من بيت عبد الحكيم بأن الضباط يرفضون التسليم، وطلب منى أن أؤجل اتخاذ أي إجراء، فقلت له: أقبل التأجيل حتى الساعة ٣ بعد منتصف الليل.

اعترف أحمد عبد الله في أقواله بأن الخطة أعطيت له في النصف الأول من يوليو، وقال: إن أول واحد تكلم معه جلال هريدى، ثم هانى بشير، وأنه رتب على هذا الموضوع، واتصل بضباط الصاعقة والعمليات.
واستطرد جلال هريدى بأن اجتماع ٢٣ يونيو بعد منتصف الليل، هو الذي حضر فيه عبد الحكيم وشمس وعثمان نصار وجلال هريدي، وهو الذي كانوا يضعون فيه التفاصيل النهائية التي على أساسها يكون التنفيذ في ٢٧ يونيو - بعد نص ليل ٢٦.

وشرح جلال هريدي: انقسمت العملية لثلاث مجموعات، مجموعة المشير، ومجموعة شمس بدران، ومجموعة عباس رضوان، وكانت مجموعة المشير ستتجه إلى أنشاص، وبعد هذا إلى القصاصين، ويعينون ضابطًا كانوا متصلين به.

بعد ذلك تتجه مجموعة شمس بدران بجواب من المشير إلى قائد الفرقة الرابعة المدرعة، عبد المنعم واصل، ويحل محله اللواء سعد عثمان من الحدود.

المجموعة الثالثة كانت بقيادة عباس رضوان، ومسئوليته كانت القاهرة، وتنفيذ الاعتقالات فيها، والسيطرة عليها، كما بحثوا موضوع الإذاعة، وموضوع فرقة مشاة موجودة في القاهرة، وسألوا: هل يستطيع عثمان نصار أن يسيطر عليها؟ فرد أنه لن يستطيع، فقالوا: إن العملية كلها جاهزة في الشرطة العسكرية، وأن شمس مجهز عملية هذا الانقلاب في الشرطة العسكرية.

واعترف جلال هريدى بأن عباس رضوان طلب مجموعة من الصاعقة لتعمل معه في الاعتقالات، لأنه لم يكن مطمئنا للانقلاب الذي سيحدث في الشرطة العسكرية الذي رتبه شمس، على هذا الأساس كان دور عباس رضوان، ويتابع جمال عبد الناصر الحديث: بالنسبة لموقف المخابرات، عملت معى أسبوعا، عشرة أيام بعد ١٠-١١ يونيو فقط، وحتى لقد طلبت صلاح نصر لإعادة النظر في القيادات وفى الجيش، وحضر معى عدة اجتماعات، حضر فيها الفريق فوزى، ولقد ألح صلاح نصر لأخذ إجراء حيال دفعة ٤٨ -دفعة شمس بدران- وأنا رفضت مبدئيا، فمن الصعب أن أتخذ قرارا بالنسبة لـ١٦٠ ضابطا مرة واحدة، لأنه قد يكون فيهم ناس جيدة.

بعد ذلك لاحظت على صلاح نصر نوعا من التراجع، وعدم الكلام في أي موضوع خاص بالجيش، وحتى لما كنت أطلب معلومات، لم يكن هناك أي معلومات، ثم عادة كانت تصل إلىّ تقارير يومية، خصوصا في أوقات الأزمات.. لا شيء!

ثم عرفت أن حسن عليش -رئيس الأمن القومى بالمخابرات العامة- يذهب إلى بيت المشير في الجيزة، وعرفت أنه تصلهم معلومات من المخابرات، ذلك الحقيقة ما جعلنى أشك، واتخذت إجراء ٢٥ يونيو بالنسبة للجيش وبالنسبة للمخابرات العامة أيضا، بالنسبة لتورط صلاح نصر، اتضح من كلام عبد الحكيم لعباس رضوان، أن يأخذ جماعات أمن من عند صلاح نصر، هذا الكلام كان اعترافًا من جلال هريدى ومن عثمان نصار.

وبالنسبة للمخابرات، طلبت من أمين هويدى أن يعمل تحقيقًا في كل شىء داخلها، وشكلت لجنة يرأسها حلمى السعيد، ولماذا طلبت هذا! ليس من أجل القضية الحالية، وإنما بسبب الكلام عن انحرافات جهاز المخابرات في الفترة الأخيرة، ورأيى أنه يجب اتخاذ إجراءات، بمعنى أنه لازم نحاكم، وكل من أخطأ يأخذ جزاءه، وإلا فنحن ندين النظام بهذه المأساة الكبيرة.

شهادة عصام حسونة وزير العدل:
وفيما يتعلق بموضوع انتحار المشير عبد الحكيم عامر، فإننى أقدم للقارئ شهادة السيد عصام حسونة -وزير العدل- في نفس اجتماع مجلس الوزراء في ١٧ سبتمبر ١٩٦٧، أي بعد ثلاثة أيام من الحادث.

اتصل بي شعراوى جمعة يوم ١٤ سبتمبر الساعة 10:30 وبلغنى بأن هناك حادث وفاة، في الواقع القضية حساسة ودقيقة، وملك شعب وملك التاريخ أيضا، وجدت من واجبى أن أنتقل، برغم مدى قسوة المشهد عليّ شخصيا، وصلت نحو الساعة ١٢ إلى استراحة المريوطية، وكان معى بعض المعاونين من أعضاء النيابة، وطلبت وكيل وزارة الطب الشرعى وبعض معاونيه أيضا.

عند وصولى كان الفريق فوزى في الحديقة، وطلبت منه أن يظل هناك، وكان هناك العميد محمد ليثي والعميد سعد، وقد وجدت من واجبى أن أعاين شخصيا.

وجدنا في المعاينة أنه لم تكن هناك أي إصابات، يبقى أمامى هيبة الموت وجلاله، يبقى فيه تهيب حتى للمحققين ومن الأطباء الشرعيين، طبعا الواحد بينسى صفته كإنسان ويستعيد صفته كمحقق، فبالصفة الثانية وجدنا شريطا لاصقا يخفى مادة غير معروفة وقتها، بدأ التحقيق على الفور، واتخذت له كل الضمانات.

قسمنا التحقيق إلى خطوات:
أولا: لما انتقل الفريق محمد فوزى وعبد المنعم رياض ومعهما بعض القوات إلى منزل المشير بالجيزة، تنفيذا للأمر الصادر بالتحقيق، «بنقله إلى استراحة المريوطية، وتصفية الموقف حول بيت الجيزة»، وشهد عبد المنعم رياض أنه قال للمشير: الموقف يقتضى أن تحضر معنا، ولكنه امتنع بشدة، قيل: إنه في هذه الحالة مضغ شيئا، ثم أمكنهم أن يقنعوه أنه لا مناص من التنفيذ، ونزل فعلا.

ثانيا: في الطريق من المنزل إلى مستشفى المعادى، لما رأوه يبتلع شيئا، خصوصا أنه قال: لا أمل أن تنالوا مني.

في مستشفى المعادى أقنعه الأطباء -ومعهم رئيس المستشفى الدكتور مرتجى- بتناول الأدوية، والتحليل كان سلبيا، ونبضه نزل إلى الطبيعى.

عين له طبيبان ظلا معه لثانى يوم، وكذلك المشرفون «في استراحة المريوطية»، وحسب كلامهم الحالة لم تكن ملفتة، ما عدا امتناعه عن الأكل، سوائل فقط.

وحسب كلام الشهود في الساعة السادسة والربع بدأ انهيار مفاجئ، وأحضروا أكسجين، واستعانوا بمستشفى المعادى، فأرسل لهم الدكتور مرتجى طبيبا أعلن أنه توفى إلى رحمة الله.

التحليل حتى الآن نتولاه بكل دقة، ومع ضمانات كاملة، وفى الوزارة.. الطب الشرعى، ومعه أعضاء النيابة، ومحامون عامون، والنائب العام، ووجدنا أيضا أنه في مثل هذا الحادث أن نستعين بأستاذ الطب الشرعى في جامعة القاهرة، الدكتور على عبد النبى، وأستاذ الطب الشرعى في جامعة عين شمس، الدكتور يحيى شريف، هؤلاء في التشريح طبعا وليس في التحليل، يمكن بالنسبة لموضوع التشريح، نحن لم ننشر عنه شيئا، وهنا قاطعه الرئيس، والله، أنا كنت طالب عدم التشريح.

رد السيد عصام حسونة.. مستحيل.. هذا كان مستحيلا، فإننى بتجاربي كمحقق، نسيت تماما صفتى كصديق وكأخ، كان مستحيلا في قضية تسمم ألا يحدث ذلك، ولقد طلبت من وكيل الوزارة أن يتم ذلك في أضيق الحدود، وألا يمس الجثمان.

وفى الواقع.. إذا انتقلت من صفتى كوزير عدل إلى الصفة الضعيفة، هو كان باسم ووديع وبشوش، وأنا ظللت معه وحدي، وديعا وبشوشا ومبتسما مثل ما شفته في ٥٢.

تحليل المادة المبدئى حتى الآن، نحن فوجئنا أنه لم يحدث في سجلات الطب الشرعى حتى الآن استخدام هذه المادة، وعبد الوهاب البشرى ظل ٣٠ سنة في موضوع السموم كلها، لم يحدث أن استخدم، إن الكمية التي وجدناها مخفية ١٥٠ مللى جرام، وطبقا لكتب الطب الشرعى، يقال إن مللى واحدًا يكفى للقتل، وحفظنا الباقى من المادة بعد التحليل، «اتضح بعد ذلك أنها مادة الأكونيتين»، كل ذلك كان يحدث، وجزء غال من الوطن محتل، واليهود على الأبواب، والجيش ممزق، والرجعية العربية وجدت فرصتها في الطعن، كل ذلك كان يحدث، وجمال عبد الناصر يواجه أقسى أيام حياته، وهو بعد لم يتعد التاسعة والأربعين.

لقد كان همه الأول أن يعيد التوازن إلى جيش جريح واجه هزيمة قاسية، وكان مصمما أن يصبح جيشا محترفا قادرا أولا على الصمود، ثم الردع والتحرير، وقد فعل.

وكان شاغله أيضا في تلك الفترة مؤتمر القمة العربي في الخرطوم في ٢٩ أغسطس، وكيف يستطيع في إطار عداء الرجعية العربية أن يحقق الدعم الاقتصادى لدول المواجهة، تلك كلها تحديات ينوء بحملها البشر، ولكن جمال عبد الناصر -كما عودنا دائما- كان الأقدر على تحملها.

المصدر:
المصري اليوم – 19 سبتمبر 2012
الجريدة الرسمية