لحمة فايزة وحنفي
"اللحمة" لم تعد مجرد أكلة يعشقها المصريون وتقوم عليها موائدهم في الأيام العادية أو في المناسبات لكنها أصبحت مؤشرا على قدرة النظام الحاكم في التعامل مع المشكلات الجماهيرية واتخاذ القرارات المناسبة في التوقيتات الملاءمة لحل تلك المشاكل بشكل جذري وليس بأسلوب المسكنات.
ولم يكن للحمة أي أهمية عند المصري القديم لاعتماده على الحبوب في مأكله حتى جاءت فترة المماليك حيث كانوا يأكلون اللحوم بشراهة ويتباهي الأغنياء منهم بكثرة ذبائحهم وانتقلت هذه العادة للمصريين وأصبح القادرون حتى يومنا هذا يتفاخرون بما يأكلونه من لحوم وما يوزعونه من ذبائح على الفقراء.
لكنها تحولت لأزمة سياسية في العصر الحديث مما دفع الرئيس الراحل أنور السادات إلى اتخاذ قرار بمنع أكل اللحمة لمدة شهر بعد أن قفز سعرها بشكل جنوني.. ونجح قرار السادات في السيطرة على أسعارها لكنه لم يحل المشكلة جذريا.
وتكررت الأزمة كثيرا في عهد مبارك لدرجة أن الحكومة أعلنت في إحدى السنوات عن التوصل لحل عبقري سيؤدي لخفض سعر كيلو اللحمة إلى 20 جنيها وذلك بفضل عبقرية الدكتورة "فايزة أبو النجا" وزيرة التعاون الدولي وحسن خضر وزير التموين وقتئذ.. وكان ذلك في نفس هذا التوقيت قبل 15 عاما مع اقتراب شهر رمضان
وفي صباح اليوم الموعود حشدت فايزة وخضر جيشا من الصحفيين والمصورين وتحرك الركب إلى مطار القاهرة واصطف طابور الإعلاميين وأمامه الوزيران يقفان في شموخ الفاتحين والجميع يترقب ماذا سيحدث وما الاختراع العبقري الذي سينهي أزمة أسعار اللحوم للأبد ويرتاح الشعب المصري من هذا الهم الثقيل.
وهبطت الطائرة وتقدم الوزيران نحوها وخلفهما كتيبة الصحفيين تسجل الحدث التاريخي.. فالوزيرة أبرمت اتفاقا مع إثيوبيا والسودان لاستيراد اللحوم بأسعار زهيدة وتحمل هذه الطائرة أولى شحنات الخير الغزير واللحم الوفير الذي سيتدفق على مصر برا وبحرا وجوا.
وجاءني زميلي هشام جاد بالصور والتفاصيل وصدرت جريدة الأحرار في صباح اليوم التالي بعناوين من نوعية " فضيحة في مطار القاهرة".. و" زفة كذابة لخداع الفقراء" وهكذا.
وفي صباح نفس اليوم كانت عناوين الصحف القومية "انتهاء أزمة اللحوم للأبد والكيلو بـ "عشرين جنيها"، وبالفعل انتهت الزفة.. ولم تأت "اللحمة" ولم ينخفض سعرها!!
والسبب ببساطة أن "اللحمة" تم استخدامها كورقة سياسية.. فكانت الحكومة في عهد مبارك تغازل إثيوبيا والسودان بصفقات اللحوم باعتبارها سلعة راكدة في الدولتين واحتياجات السوق المصرية منها كبيرة ودائمة وهذا الأمر يدر دخلا وفيرا للبلدين.. لكن حتى هذا لم يحدث لعدم وجود إرادة سياسية لحل مشاكل الفقراء وتحكم مافيا اللحوم.. وانتهى الأمر إلى تصريحات عنترية للوزراء ومانشيتات وردية للصحف القومية واستمرت أزمة اللحوم حتى الآن.
واستخدمها الحزب الوطني المنحل في الانتخابات، فكان يتم توزيع اللحوم على الناخبين.. ومن بعده الإخوان.. وأصبحت ظاهرة سياسية واجتماعية حتى أن جهات رسمية توزع اللحوم على المواطنين في كل المناسبات والأعياد.
والآن يمارس وزير التموين ومن ورائه حكومة محلب نفس الخداع للبسطاء، ولم يحاسبه أحد على هذا الكم من التصريحات الوردية من عينة الفرخة بنص جنيه وكيلو "اللحمة" بـ 10 جنيهات، وأن المجمعات الاستهلاكية مكدسة باللحوم الرخيصة، وأن أزمة ارتفاع أسعارها انتهت تماما.
هي نفس التصريحات التي تشدق بها وزراء التموين في عهد السادات ومبارك ومن بعد ثورة 25 يناير لدرجة أن جملة "خطة جديدة لإحياء مشروع البتلو" أصبحت من أكثر العبارات التي رددها وزراء التموين والزراعة في العقود الأخيرة وتستطيع مصر أن تدخل بها موسوعة جينيس.
اللحمة لم تعد مجرد أكلة.. لكنها اصبحت مؤشرا على نجاح أو فشل الأنظمة الحاكمة.!!!