رئيس التحرير
عصام كامل

رجل ضد الانحياز


يقولون إن الجغرافيا تكتب التاريخ وجغرافية سلطنة عمان عنيدة، صلبة، قوية.. سلاسل الجبال تناطح السحاب.. تقف مشدوهة وكأنها ترسم أمام الإنسان، واحدة من معجزات الخالق ليشعر المخلوق بحجمه الطبيعي.. صخور في صلابة الحديد.. جبال سوداء وأخرى خضراء وثالثة تحمل من الألوان الكثير.. مياه الخليج تحاول وهمًا أن تقفز فتصطدم بصلابة الأوتاد.

الموقع ذاته مشكلة.. مشكلة كبيرة.. شمالها مضيق هرمز، وجنوبها اليمن بكل ما تحمل من ثقل جغرافي.. غربها الإمارات والسعودية وتطل على ثلاثة بحار.. الخليج العربي.. خليج عمان.. بحر العرب.. هكذا تراها في تمدد ساحر وفي ذات الوقت خطير.

لم يكن أمام الإنسان العماني إلا أن يكون جزءا من جغرافيته، متمسكا بأرضه صاحب إطلالة تاريخية على غيره.. اعتلى البحار وابتنى حضارات عريقة.. صادق الجبال ولم يعاندها.. استفاد منها وتعلم كيف يواجه عنفوانها بلين قد يراه البعض غريبا عن طبيعة المكان.. نعم فالعمانيون شعب من حرير.. أصحاب تجربة إنسانية راقية فرضت عليهم أدوارا حضارية مهمة.

آخر زياراتي كانت منذ عدة أشهر.. بيني وبين مسقط حالة خاصة من الحب.. الناس.. البساطة.. الأصالة.. الجبال الشاهقة التي تحرس العاصمة.. زرقة المياه.. زهور يزرعها العمانيون في الشوارع، فتتحول إلى حدائق غناء جعلتها تفوز لمرات بأنظف عاصمة في العالم.

كانت مسقط في المرة الأخيرة غير كل المرات السابقة.. أشجارها على نفس الخضرة، وزهورها لا تزال يانعة، ومبانيها كما هي تحمل كل صنوف الإباء من العمارة الإسلامية.. شيء ما لم يكن كما كان.. وجوه الناس لم تكن تحتفظ بذات بشاشتها.. العوام في الشوارع والمسئولون في الوزارات.. في المطاعم والفنادق كان شيء ما غير موجود كما كنت أطالعه على ملامحهم العربية الأصيلة.

بعد أيام من زيارتي، عرفت الحقيقة من عمال مقهى على مقربة من الفندق الذي كنت أقيم فيه.. قال الشاب بعفوية "كلنا قلقون على جلالة السلطان".. كان السلطان قابوس في رحلته العلاجية التي عاد منها إلى أرض الوطن بسلامة الله، تلك الرحلة التي جعلت أمير الكويت يشير إليه في كلمته بمؤتمر مستقبل مصر، على أنه الغائب الحاضر، وسط حالة من التصفيق والترقب.

ولكن لماذا يحظى السلطان قابوس بهذه الحالة من التوافق العربي والدولي وعلى مستوى شعبه؟.. أيقن السلطان قابوس أن طبيعة الإنسان العماني إنما استقاها من تاريخه ومن جغرافيته، فاختار ما يجب عليه أن يختاره منذ بدء تجربة النهضة في سبعينيات القرن الماضي.. استثمر في الناس.. اهتم بالتعليم.. بالثقافة.. بخصوصية التجربة العمانية، وبالتوازي مع العمل الداخلي الدءوب استطاع أن يحمي سفينة بلاده من ويلات السقوط في مستنقع الانحياز.

لم ينحز السلطان قابوس طوال حياته إلى لقيمة وحيدة "الإسهام الحضاري على محيطه العربي والآسيوي، وتعاطيه مع الحضارة الغربية وفق أجندة عمانية خالصة".. اختلف الناس مع مصر، وظل هو محبا لها مستبقيا على علاقات خاصة جدًا بالقاهرة.. ترك الجميع العراق وقت الأزمة وظلت راية السلطنة ترفرف فوق سفارتها في بغداد.. لم يقطع حبلا موصولا، ولم يسع في يوم من الأيام إلى صدام.

كان العالم كله يضع يده على قلبه من صدام أمريكي إيراني يورط المنطقة في حرب جديدة، بينما كانت السلطنة تقوم برحلات مكوكية بين واشنطن وطهران، فكان الحوار الذي جنب الجميع ويلات الحرب.. انطلقت عاصفة الحزم باليمن بينما كان السلطان مشغولا بما يمكن أن تطرحه السلطنة من مبادرة سياسية تعيد الجميع إلى طاولة حوار إنساني يحافظ على الجميع.

المتابع لمواقف السلطان قابوس وبلاده يدرك الإجابة عن السؤال "لماذا كان العمانيون قلقين على صحة سلطانهم؟"، ويعرف "لماذا كانت عواصم كثيرة تتابع عن قرب حالته الصحية؟".
الجريدة الرسمية