شاهدة عيان على «نكبة 48».. منيرة شيحة: اليهود ذبحوا والدي ومصير دير ياسين دفعنا للهرب حفاة.. لفينا كعب داير من المجدل للقاهرة.. وأغلى المفقودات خريطة تشمل أسماء جميع قرى فلسطين
قد نتأفف من الانتظار لدقائق أو لساعات، وقد يثور البعض إذا طلب منه الانتظار لأيام، أما هي فقد قضت 67 عامًا من عمرها البالغ 74 عامًا تنتظر فقط أن تتحقق أمنيتها وتعود لتلك الأرض التي طردت منها، دون طعام أو مال أو حتى حذاء ولم تحمل منها سوى ذكريات لن تنساها ما حيت، تحكيها كل يوم لفتيات بيت الطالبات الذي تشرف عليه، وتقضي ساعاتها في تعريفهن "فلسطين" التي يتشاركن في الانتماء لها، إلا أنها تختلف عنهن في أنها قد رأتها أما هن فلا يحملن سوى حكايات الجدات.
منيرة شيحة هذا هو اسمها، أما وطنها فهو فلسطين وتحديدًا مدينة يافا الشهيرة بالبرتقال والليمون، 7 سنوات فقط عاشتها في كنف تلك الأرض، كانت كفيلة لكي تحفر اسم فلسطين في قلبها، زادها مرارة الخروج.
ذبح والدها
بلكنة فلسطينية تتحرى منيرة التحدث بها تروي منيرة ذكريات مايو 1948 "كنت في السابعة من العمر، كنا 8 إخوة ثلاثة من الذكور، و5 من الإناث، كنت أنا أصغرهم ومعي أخى التوءم، وكنا نعيش في بيارة "مزرعة" لنا في يافا، بعد أن أغلق والدي تجارته بسبب ظروف الصراع، وفي كل ليلة كانت مناوشات العصابات الصهيونية تدفعنا لترك الدار والخروج إلى الأشجار، خاصة مع التحذيرات المتتالية من مصير دير ياسين التي كانت مضرب المثل في المذابح الصهيونية".
وتابعت منيرة "في إحدى الليالي رفض والدي ترك المنزل، ودفعنا نحن للخروج من الدار والاختباء بين الأشجار، وظللنا لساعات مختبئين، بعدها ذهب بعضنا لتفقد المنزل ونظرت أختى من نافذة المنزل لترى أبي مذبوحًا، ولا أعرف كيف تحملت أختي أكرام تلك المأساة إلا أن ما أذكره أن أختي فقدت الكثير من وزنها بعد هذا المشهد".
الهروب حفاة للمجدل
"الروح عزيزة" تكمل منيرة قائلة: "لم يكن أمام أمي التي لها 5 بنات سوى الهروب من القرية خوفًا من مصير "دير ياسين" فبدأنا رحلتنا حفاة سيرًا على الأقدام لا نحمل مالًا ولا طعامًا أو ماءً، وأذكر أننا كنا نتناول ثمار العنب التي لم تنضج فكانت تجرح حلقنا، لنستقر في المجدل حيث تم تجميعنا في إحدى المدارس، وذهب أخي إلى الخليل للحصول على أموال لنا عند إخوة أمي، وتمت محاصرته هناك، في الوقت الذى اشتعلت فيه الاشتباكات في المجدل، وكان الصهاينة على مدى ستة أيام يلقون علينا البراميل المتفجرة، حتى أن أمي كانت تقول لنا تفرقوا حتى لا نموت جميعًا، بعدها بدأت الهدنة بين اليهود والجيوش العربية، فانتقلنا إلى أقاربنا بخان يونس، حيث أعطانا أعمام أمي هناك غرفة عشنا بها، في الوقت الذي كان فيه أخي لا يعرف إذا كنا قد عشنا أو متنا، وعاد من الخليل فك الحصار، وكان يتحرك في الليل خوفًا من الصهاينة إلا أنه استطاع الوصول لنا في خان يونس، وأذكر أن قدميه كانت منتفخة من كثرة السير".
الرحيل لمصر
وتضيف: بعد عدة أشهر استطاع أهل لنا بمصر توفير فرصة الحياة بالقاهرة، حيث انتقلت وأسرتها للعيش في منطقة الدمرداش، لتلتحق بمدرسة المبرة التي تركتها بعد أن صفعتها مدرسة لعدم تقبيلها يد الملك فاروق أثناء حفل افتتاح معرض المشغولات، والتحقت بعدها بمدرسة العباسية.
قبل أن تبلغ السادسة عشر من عمرها تزوجت منيرة من محمود شهاب الدين أحد المناضلين الفلسطينيين الذين رافقوا فاروق الحسيني سنة 1936، ولقلة ذات اليد وافقت الأم رغم فارق السن الذي يزيد على 19 عامًا، وعاشت معه لتبدأ رحلة أخرى في حياة منيرة بعدما جاء أحمد الشقيري لمصر لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية التي تفرغ لها زوجها.
عملها بمنظمة التحرير
وتشير منيرة إلى أن السنوات الأولى من زواجها كانت فيها حبيسة المنزل لغيرة زوجها الشديدة عليها، إلا أن سميرة أبو غزالة طلبت منه أن تشارك في العمل السياسي، وكان أول نشاط لها هو رعاية مركز المحمدي وهو تجمع لأسر فلسطينية، لتظل في ممارسة نشاطها حتى الآن.
وكحال الأسر الفلسطينية عاشت منيرة حياة الشتات، فتفرق الإخوة في كل بلد، منهم في الكويت ومنهم من عاد إلى الضفة حيث تعيش أختها في نابلس والتي استطاعت أن تحصل لها على تصريح بالزيارة في 1991، وكان الهاجس الأهم لها كيف تزرع نفسها وأبناءها في الأرض الفلسطينية مرة أخرى، فعاشت ابنة لها بغزة، وحين حانت لها الفرصة زوجت ابنها من فلسطينية من عرب 48 تعيش بـ"يافا".
زيارتها لأرضها
وتروي منيرة كيف كانت فرصة ابنها الوحيدة بعد سفره للمرة الأولى في الخروج عن طريق أن يتم عقد قرانه في غياب أمه التي بكت وأوهمته عبر الهاتف أنها دموع الفرح رغم كون تلك الدموع حزنًا على أنها لم تحضر تلك المناسبة، إلا أنها استطاعت الحصول على تصريح لحضور الزفاف بعد عناء طويل، ومبلغ صغير أعطته لموظف السفارة الإسرائيلية بالقاهرة ليختم لها تصريح السفر.
وفي يافا رأت منيرة للمرأة الأولى بيارة والدها، التي يعيش بها يهودي هولندي وزوجته اليمنية، وحين سألته عن تلك الأرض كيف حصل عليها، أخبرها أن الدولة منحته إياها، وأن ابنه سيتملكها بعد 99 عامًا، فانفجرت حزنًا وصراخًا، إلا أنها لم تنس أن تحمل بعض تراب البيارة في علبة سجائر فارغة، وحين سألها ساكن البيارة الحالي عن السبب أخبرته أنها تريد أن تشم رائحة دم والدها الذي قتل ولم تستطع دفنه.
وثيقة السفر
وتشير منيرة إلى أنها أثناء خروجها من الأراضي المحتلة وحين أعطت للموظفة وثيقتها قالت لها انتظري قليلًا، وتركتها إلا أن ما أنقذها أن ابنتها الثانية التي جاءت لتحضر عرس أخيها تحمل جواز السفر الأمريكي فاستطاعت إخراجها متسائلة كيف يمكن أن يكون صاحب الأرض منبوذًا ومسموح لمن يحملون الجواز الأمريكي أو أي جنسية غير الفلسطينية الدخول والخروج دون أزمة.
ورغم الأحداث الكثيرة التي عاشتها منيرة والحروب المتتالية فإنها لم تشعر في أي منها أنها قد اقتربت من العودة إلى أرضها، قائلة إن الساسة العرب تآمروا على فلسطين وضيعوها.
خريطة فلسطين
في حديثنا مع منيرة لفت نظرنا احتفاظها برموز عن القضية، كخريطة خشبية لفلسطين التاريخية، إلا أنها أبلغتنا أنها كانت تحتفظ بخريطة كبيرة بها اسم كل قرية فلسطينية، وتخبر الطالبات الفلسطينيات اللاتي يعشن معها في المنزل التابع لاتحاد المرأة الفلسطيني عن أماكن قراهن على الخريطة إلا أن حريقًا كبيرًا شب في المنزل أحرق تلك الخريطة التي لم تحزن على أي شيء تم تدميره سواها.
وحول الشائعة التي روجها اليهود عن بيع الفلسطينين لأرضهم قالت منيرة "بيارتنا كانت 77 فدانًا، رفض أبي تركها رغم العروض المغرية التي تلقاها من اليهود".