رئيس التحرير
عصام كامل

نحدثكم عن «جبلاية القرود» و ليس عن عادل حمودة


“إننى أستطيع أن أعطيك قلبى فأصبح عاشقا.. أعطيك طعامى فأصبح جائعا.. أعطيك ثروتى فأصبح فقيرا.. أعطيك عمرى فأصبح ذكرى.. ولكننى لا أستطيع أن أعطيك حريتى.. إن حريتى هي دمائى... هي عقلى.. هي خبز حياتى. إننى لو أعطيتك إياها فإننى أصبح قطيعا. شيئا له ماض ولكن ليس أمامه مستقبل”.


الفقرة السابقة اختارها الراحل محمود عوض لإنهاء مقدمة كتابه “أفكار ضد الرصاص”.. “عوض” تحدث عن “المغضوب عليهم”.. أزاح الغطاء عن “الضالين” وترك الحكم لـ “المواطن”.. وضعنا جميعا أمام حقيقة واحدة، لا هروب منها، أن “الحرية” لا تباع ولا يمكن أن تطلب “ديلفيري” وتأتي ساخنة.. أعطانا درسا مفاده أن الأفكار دائما تنتظرها المعارك.. وأن الكلاب فقط هي الصوت الذي يصاحب “قوافل الفكر”.

“عوض” كتب مقدمته، ورحل، قال ما قال، ولم نقل له “آآآآمين”، وهو لم يطلب منا أن نقولها، لكننا أعدنا قراءة التاريخ، لنصل في النهاية إلى ما وصل إليه هو، والذي قال عنه” في كل جيل من المثقفين تستطيع أن تجد دائما عددا قليلا من الذين يقبلون التضحية بكل شيء – الأسرة، والثروة، والمركز، والأصدقاء، والوظيفة – لكي يجيبوا على السؤال المفزع: كيف علينا أن نعيش.. ونفكر؟ السؤال صعب.. والإجابة مهمة والثمن فادح، ولكن ضميرهم يستريح، فالأسماك الميتة فقط هي التي تسبح مع التيار”.

الكاتب الصحفى عادل حمودة، قرر منعنا من التفكير، ليس هذا فحسب، لكنه طالبنا أن نقول “آآآمين”.. طالبنا بـ “الرقص” في حلقة الذكر، التي يظن أنه شيخها، وعندما رفضنا أصبحنا “قرودا تعيش في الجبلاية”.. استخدمنا لـ “تصفية الحسابات” – ممكن- لإنهاء “الصفقات” وهذا مؤكد، تعامل معنا كوننا “الإيد اللي بتوجع”، بعدما فشل في تقبيل “اليد التي تمنح”.

وضعنا “حمودة” في “خانة الحيوانات”.. متجاهلا، ما يجب عليه معرفته مما مر في الماضي، وتحديدا ما كتبه الراحل أحمد بهاء الدين في مقدمة كتابه “أيام لها تاريخ” عندما قال: هل عرفت أحدث تعريف للإنسان؟... لقد قيل مرة إنه حيوان ناطق، ثم تبين أن الببغاء تنطق... وقيل إنه حيوان ضاحك، ثم تبين أن القرود تضحك... وقيل إنه حيوان عاقل، ثم تبين أن كل الحيوانات تعقل، وإن كان العقل درجات !

وحار العلماء طويلا: فالإنسان كائن حي، يأكل ويشرب وينام ويعقل كغيره من الحيوانات. ولكن المؤكد أن هناك شيئا ما يميزه عن الحيوان. شيء ارتقى به حتى أصبح هذا السيد الذي يحكم الحيوان والجماد ويقهر الطبيعة.. وأخيرا اهتدى العلماء إلى التعريف الدقيق:(الإنسان حيوان ذو تاريخ!).

ما معنى ذلك؟... معناه أن الميزة الأولى التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات هي أن كل جيل من البشر يعرف تجارب الجيل الذي سبقه ويستفيد منها.. وأنه بهذه الميزة -وحدها- يتطور.

أنت تستطيع اليوم أن تصطاد الفأر الذي تجده في بيتك بنفس الطريقة التي كان يتم اصطياده بها منذ زمن قديم.. مصيدة وقطعة جبن ! ولو كان في بيتك عشرة فئران لاستطعت أن تصيدها واحدا بعد آخر؛ يوما بعد يوم؛ بنفس المصيدة وقطعة الجبن.. ذلك أن الفئران ليس لها تاريخ، ولا تستفيد من تجربة.. هي لا تعرف أن في اليوم السابق دخل الفأر ليأكل الجبن فأغلقت عليه المصيدة، وهي قد تعرف ولكنها لا تدرك المغزى.. فلا تتحاشى أبدا قطعة الجبن.

وعلى العكس من ذلك.. الإنسان.. إنه يعرف ما أصاب أسلافه بالأمس، ومنذ مائة سنة، ومنذ آلاف السنين.. فهو قادر على أن يتجنب زلاتهم، ويستفيد من تجاربهم.. ويضيف إلى اكتشافاتهم.. وكل جيل لا يبدأ من جديد ولكن يضيف إلى ما سبق.. وهذا هو التقدم.

على أن الإنسان لا يولد وعبر التاريخ في جوفه.. ولكنه يتعلم.. فهو لا يستطيع أن يعرف التاريخ إلا إذا قرأ.. إن كان رجل قانون قرأ ما سبق إليه فقهاء القانون.. وإن كان رجل كيمياء تعلم ما وصل إليه المكتشفون السابقون.. ومن حيث انتهوا يستطيع أن يبدأ.. وإن كان مواطنا فإنه يتعلم تاريخ وطنه كله، ويدرك مغزاه، وسر تطوره، واتجاه خطواته.

وليس يكفي أن تعرف حوادث التاريخ لكي تحسب أنك قد تعلمت التاريخ.. فالأهم أن تستخلص من هذه الحوادث عبرتها: على أي شيء تدل؟.. وفي أي طريق يمضي التاريخ؟ فإن ذلك يجعلك تعلم ما سوف يحدث وما لا يمكن أن يعود.. فيجنبك أن تكون رجعيا، ويحميك من السير وراء دعوات براقة فات وقتها.

والتاريخ هو الفرق بين الإنسان الواعي، وغير الواعي.. الإنسان غير الواعي لا يرى إلا قطعة الجبن.. ولكن الإنسان الواعي؛ يرى قطعة الجبن، ويرى المصيدة!

إذن إنه التاريخ.. الذي يبدو أن “حمودة” يتعامل معه كونه “منديلا ورقيا” يستخدمه لـ”تنشيف يديه” أو مناطق أخرى ويلقي به في أقرب “سلة مهملات”.. التاريخ الذي يدرك الجميع أنه يحمل بين صفحاته العديد من الوقائع التي ستؤكد للجميع أصل “جبلاية القرد”.. صفحات ستحدد موقعها على “الخريطة الصحفية”.. صفحات حاول – لأكثر من مرة- أبطالها إشعال النيران فيها، ترويج الأكاذيب حول مصداقيتها، لكنها لا تزال “تسر الناظرين”... صفحات خاصة ومثيرة من داخل جبلاية القرود نبدأ في نشرها من العدد المقبل.
ekamel@vetoeg.net
نقلا عن العدد الورقى
الجريدة الرسمية