رئيس التحرير
عصام كامل

«فيتو» تكشف في تحقيق استقصائي: الطريق للغسيل الكلوي يبدأ بـ «رنجة».. مصانع «بير سلم» تستخدم عبوات ماركات مشهورة تجمعها من القمامة.. غياب كامل للاشتراطات الصحية.. أملاح مج


استفاقت الأم على صوت طفلها "معاذ " البالغ من العمر 8 سنوات وهو يتألم ويدخل الحمام للمرة الثالثة خلال نصف ساعة بعد تناوله وجبة "رنجة" في الغداء، لتكتشف إصابته بإسهال، ونزلة معوية حادة نتيجة ميكروب تلوثت به أسماك "الرنجة" التي قدمتها لعائلتها، رغم كون تلك الأسماك من نفس "الماركة" التي تشتريها كل مرة، لتكتفي بالدعاء على التاجر وإيقاف شراء "الرنجة" لأجل غير مسمى.


حالة "معاذ" واحدة من العديد من الحالات التي تنتشر في مصر مع اقتراب أعياد شم النسيم، أو عيد الفطر الموسمين الرسميين في مصر لتناول هذه الأطعمة، وهي الدافع لإجراء هذا التحقيق الذي يكشف مصانع بير السلم لتمليح وتدخين الأسماك مجهولة الهوية والتي تقلد ماركات معروفة في مصر مستغلة ازدحام الموسم.

زار المحرر عددا من المصانع المجهولة الموزعة بين القاهرة والمحافظات، كان من بينها مصنع داخل محافظة الشرقية، ولظروف تتعلق بإثبات شخصية المحرر لم يسمح له الدخول إلى المصنع، وهو ما دفع مصور الجريدة إلى القيام بالمهمة بدلا منه.

الاشتراطات الصحية

لم يكن طريق المتطوع سهلًا، فقد كان على المصور بداية التواصل مع أحد المتعاونين من داخل المصنع لتسهيل عملية دخوله مقابل مبلغ مالي هو 100 جنيه تمت مضاعفته أثناء وجوده في المصنع كنوع من الابتزاز.

وطبقًا لوصف المتطوع، فإن المصنع المذكور مقام داخل مزرعة دواجن بالشرقية، ولا تنطبق عليه الاشتراطات الصحية، حيث يستخدم العمال أحذية بلاستيكية حتى "الركبة" للتحرك داخل المصنع، ويشمل هذا التحرك الصالات التي تلقى الأسماك على أرضيتها، ودورات المياه بحالة مزرية تفوح منها الروائح الكريهة الناتجة عن عدم التنظيف، بالإضافة إلى الطرقات والسلالم.

وحسب المتطوع فإن الأسماك يتم تفريغها من الصناديق على أرضية إحدى صالات المصنع التي تفوح منها رائحة العفن، حيث يتم غمرها بالمياه بعدها يتم وضعها في أحواض التمليح، لتبدأ عملية التمليح للأسماك.

ويتم بعد ذلك تجهيزها للتدخين بسكب كميات من الملح على الأسماك، ولاحظ المتطوع أن الملح المستخدم يتم سكبه من أجولة لم يدون عليها أي بيانات، ما دفعه إلى السؤال عن هذا الملح، وهل يمكنه أخذ بعضه للمنزل عنده، فأجابه رئيس الوردية قائلًا "إذا كنت عاوز تموت بالفشل الكلوي خد من الملح ده" ما دفعه إلى الاستفسار أكثر، حيث توصل إلى أنه "ملح سياحات".

ملح السياحات
و"ملح السياحات" هو ملح يستخدم في الأغراض الصناعية شريطة أن تزيد نسبة كلوريد الصوديوم فيه على 95 % طبقًا لدليل حماية المستهلك، ويستخرج من مياه صرف الأراضى الزراعية ومياه صرف المزارع السمكية ومثل هذه الأنواع من المياه الناتجة من الرشح الزراعي أو المزارع السمكية تحتوى على مخلفات المبيدات الحشرية والأسمدة والعناصر الثقيلة والخطيرة والضارة بصحة الإنسان والتي كثيرا ما تؤدى إلى الإصابة بأمراض خطيرة كالفشل الكلوى والسرطان.

زيت وكركم
وعقب عملية التمليح التي لم تزد على 3 ساعات، بدأت عملية التدخين والتي تمت طبقًا للمتطوع داخل دولايب موجودة بالحوائط حيث تم إشعال النار تحتها ليدخل الدخان مباشرة على الأسماك عبر فتحات في الدولاب، وهي المرحلة التي امتدت لـ 6 ساعات أخرى، قام بعدها العمال بتنظيف الرنجة مستخدمين قطنة مبللة بزيت وكركم لإكسابها اللون الذهبي بدلًا من اللون الأسود الناتج عن دخان الخشب.

التعبئة
أما مرحلة التعبئة فكانت صدمة أخرى للمتطوع، حيث اكتشف أن عملية التعبئة تتم باستخدام فوارغ صناديق شركات "الشمس" و"النجمة" الشركتين الأشهر في هذا المجال، حيث يتم جمع هذه الفوارغ من المحال لتتم إعادة تعبئة الأسماك بها، ويوضع عليها ملصقات هذه الشركات.

عملية التصنيع الصحيحة
وطبقًا لعملية تدخين "الرنجة" الصحيحة، فإن العملية تمر بثلاث مراحل، تبدأ بفك التجميد جزئيًا لأسماك الهرينج المجمدة باستخدام المياه، وغسيلها في دش مائي ببراميل أو أحواض لمدة 24 ساعة، ثم وضعها في أحواض أسمنتية مغلفة بجدران من السيراميك أو براميل في عملية تسمى "التمليح"،.

حيث توضع طبقة من الملح وطبقة من الأسماك بصورة تبادلية لمدة 6 ساعات على الأقل، ويتم الاستدلال على تمام عملية التمليح من خلال تحول الملح إلى محلول ملحي وبذلك تفقد الأسماك السوائل الموجودة بها، ثم يتم تجفيف الأسماك جزئيًا بتعليقها على خطافات وإزالة الملح الزائد بدش مائي لمدة 5 دقائق، وتركها لمدة 5 ساعات،.

وأخيرًا مرحلة "التدخين" وهي عبارة عن تعليق الأسماك داخل دوالايب مجهزة بجدران المصنع لمدة 10 ساعات، بعد أن توقد تحتها نيران هادئة أشعلت بالنشارة وخشب الزان لاكتساب اللون الذهبي، ثم توضع الرنجة بعد أن أصبحت مصنعة داخل صناديق خشبية بالتبادل بين طبقات السمك والورق الشفاف.

غش تجاري

من جانبه قال أحمد حسين نائب رئيس شعبة الأسماك بالغرفة التجارية بالقاهرة، إن ما تقوم به هذه المصانع هو عملية غش تجاري، ولها تداعيات خطيرة خاصة أن المواطن يقبل على شراء "الرنجة" باعتبارها أحد المنتجات الآمنة عن "الفسيخ" و"الملوحة.

وأضاف حسين أن مصانع تدخين الأسماك انتشرت في الفترة الأخيرة لكونها عملية مربحة، مشيرًا إلى أن هناك مصانع تقوم بهذه العملية في فترة عيد الفطر وشم النسيم فقط باعتبارهما موسمين يسهل فيهما بيع أي كمية من الرنجة.

وأوضح حسين أن الغرفة تحاول التواصل مع كل الجهات الرقابية لمنع مثل هذه المصانع التي تتاجر بصحة المصريين.

السعر هو السبب
"السعر هو سبب الانتشار" هكذا يقول حسن العراقي صاحب محل "سردينة" لبيع الأسماك المملحة والمدخنة بمنطقة منشية عبد المنعم رياض بشبرا الخيمة، مضيفًا أن مصانع بير السلم تعرض أسعارا أقل بكثير عن أسعار الشركات المعروفة.

ويشير العراقي إلى أنه في الوقت الذي تباع فيه منتجات الشركات ما بين 22 جنيها إلى 28 جنيها، فإن مصانع "بير السلم" تبيع منتجاتها بأقل من 18 جنيها وهو سعر يجذب أي زبون خاصة أن المنتج يحمل اسم شركة معروفة.

ويضيف العراقي " الزبون يبحث عن الأرخص، ويعتقد دائمًا أن البائع جشع لذلك لا يفكر في أن فارق السعر هو لكون المنتج الأرخص مغشوشا".

ويروي العراقي واقعة جرت معه قبيل موسم "شم النسيم" حيث عرض عليه مندوب توزيع أسعارا أقل بـ40% من أسعار الشركات، وبرر ذلك بأنها طلبية تم شراؤها قبل تصفية أحد المحال وصاحبها يريد بيعها بأي ثمن عملًا بمبدأ الخسارة القريبة.

نتائج التحاليل
بعد الحصول على شهادة المتطوع وعينة من الرنجة بعد تصنيعها، جاءت الخطوة الأصعب، وهي تحليل تلك العينات، حيث رفض المعهد القومى للتغذية تحليل العينات لعدم وجود الأجهزة المختصة بمثل هذا النوع من التحاليل، وتوجه المحرر إلى المعامل المركزية لوزارة الصحة التي رفضت بدورها بحجة عدم التخصص، ليقبل مركز التحاليل الدقيقة إجراء تحليل "الميكروبيولوجي" للعينة.

وطبقًا لنتيجة التحليل فإن العينة احتوت على بكتيريا القولون الكلية بمعدل (1.6× 10*3) لكل جرام، وبكتيريا عنقودية بمعدل (1.02×10*3) لكل جرام، وبكتيريا برازية بمعدل 10 لكل جرام، وخمائر بمعدل 125 لكل جرام، وكذلك أعفان بمعدل 5 لكل جرام.

وبعرض نتائج التحاليل على د. عصام رمضان رئيس لجنة الصحة العامة وسلامة الاغذية أكد أن النتائج تكشف عن مستوى تلوث يمكن أن يسبب على المدى القصير تسمما غذائيا ونزلات معوية وإسهالا.

وأضاف رمضان أن الأزمة ليست في مستوى البكتيريا نظرًا لأن البكتيريا متغيرة يمكن القضاء عليها بالحرارة أو الليمون أو غيرها، إلا أن الأزمة في نواتج البكتيريا من سموم التي يمكن أن تسبب تسمما غذائيا، وعلى المستوى التراكمي يمكن أن تسبب أمراض مثل الفشل الكلوي أو تليف الكبد أو السرطان.

70 مصنعا
وأكد رمضان أن ظهور البكتيريا العنقودية يوضح تلوث الأسماك ببكتيريا من دورات المياه، مشيرًا إلى أن الاشتراطات الصحية غائبة بالكامل عن مصانع "بير السلم" مشيرًا إلى أنه تم ضبط 70 مصنع "بير سلم" خلال موسم شم النسيم فقط.

من جانبه قال د. هانى الناظر رئيس المجلس القومي للبحوث سابقا إن استخدام ملح السياحات في تمليح الأسماك هو كارثة بكل المقاييس، مشيرًا إلى أن الأسماك المملحة عمومًا تتسبب في حساسية واختناقات بالإضافة إلى ارتفاع ضغط الدم، مشيرًا إلى أن تمليح "الرنجة" باستخدام ملح السياحات يضيف فوق الأخطار السابقة خطر الفشل الكلوى نتيجة السموم التي لم تتم تنقية الملح منها، والتي تتركز في الكلى "مصفاة الجسم".

وحتى كتابة هذه السطور لم يتسن للمحرر الحصول على رد من شركتي "النجمة" و"الشمس" حول واقعة تزوير عبواتهم.

ضبط 38 طن رنجة فاسدة خلال أسبوع قبل شم النسيم
مع اقتراب موسم شم النسيم من كل عام، تنشط الحملات التموينية لضبط منتجات "الرنجة" والأسماك المملحة الفاسدة أو غير الصالحة للاستهلاك الآدمى، وقد استطاعت مباحث التموين ضبط عشرات الأطنان من الرنجة الفاسدة في الفترة من 4 أبريل حتى كتابة هذه السطور ترصد "فيتو" منها الآتي:

ضبط 13 طن رنجة بمحال شهيرة بالسيدة زينب وحلوان والضاهر والوايلي خلال حملات جرت يومي 4 و5 أبريل طبقًا لتصريح اللواء مدحت عبد الله مساعد وزير الداخلية لشرطة التموين.

ضبطت مباحث التموين 20 طن رنجة غير صالحة للاستهلاك الآدمي بأحد المخازن بكفر الشيخ وذلك يوم 7 أبريل.

و400 كيلو رنجة غير صالحة للاستهلاك الآدمي بأحد محال الأسماك الشهيرة بالإسكندرية إلى جانب أسماك الأرانب السامة وأسماك مملحة فاسدة في 7 أبريل.

ضبط 2 طن أسماك رنجة فاسدة تم ضبطها في إحدى الحملات التموينية بالجيزة بمناطق أوسيم وإمبابة وفيصل.

400 كيلو سمك رنجة غير صالحة للاستهلاك الآدمي في مصنع غير مرخص بمديرية مطوبس بكفر الشيخ، في حملة تموينية في 7 أبريل.

ضبط 260 كيلو رنجة غير صالحة للاستهلاك الآدمي، وطن ونصف ملح غير صالح للاستهلاك الآدمي يستخدم في تمليح أسماك الرنجة في مصنع غير مرخص، وغير مطابق للاشتراطات الصحية بقرية الطالبية بمدينة كفر الزيات محافظة الغربية، في حملة تموينية في 9 أبريل.

ضبط 6 أطنان رنجة فاسدة وغير صالحة للاستخدام الآدمي تم ضبطها في إحدى الثلاجات بمركز إهناسيا بمحافظة بنى سويف، وطن رنجة في محال ببندر الفشن بنفس المحافظة في حملة تموينية في 10 أبريل.

ضبط 405 كيلو رنجة مجهولة المصدر في مصنع غير مرخص في مركز بدر بالبحيرة في حملة تموينية في 10 أبريل.

ضبط طن و75 كيلو رنجة وأسماك مملحة فاسدة وغير مطابقة للمواصفات في حملات أمنية لمباحث التموين بمحافظة المنيا في 10 أبريل.

ضبطت حملة تموينية 6 محال شهيرة بمنطقة الشرباصي والشهابية بمدينة دمياط تبيع رنجة فاسدة.

تستورد مصر كل عام 300 ألف طن من الأسماك المجمدة من النرويج والسويد قبل موسم شم النسيم بثلاثة أشهر، منها 100 ألف طن من أسماك الهارينج المستخدمة في صناعة الرنجة، يتم طرحها بالأسواق قبل شم النسيم وتظل بالأسواق طوال العام، وذلك طبقًا لتصريحات أحمد عبد الحليم عضو شعبة الأسماك بالغرفة التجارية بالقاهرة.


5 سنوات أقصى عقوبة لصاحب المصنع

وتنص المادة الثانية من القانون رقم 281 لسنة 1994على أنه "يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تتجاوز الخمس سنوات وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تتجاوز الثلاثين ألف جنيه أو ما يعادل قيمة السلعة موضوع الجريمة أيهما أكبر:
1- كل من غش أو شرع في أن يغش شيئا من أغذية الإنسان أو الحيوان أو من العقاقير أو النباتات الطبية أو الأدوية أو من الحاصلات الزراعية أو المنتجات الطبيعية أو من المنتجات الصناعية معدا للبيع وكذلك كل من طرح أو عرض للبيع أو باع شيئا من هذه الأغذية أو العقاقير أو النباتات الطبية أو الأدوية أو الحاصلات أو منتجات مغشوشة كانت أو فاسدة أو انتهى تاريخ صلاحيتها مع علمه بذلك.

2- كل من صنع أو طرح أو عرض للبيع أو باع مواد أو عبوات أو أغلفة مما يستعمل في غش أغذية الإنسان أو الحيوان أو العقاقير أو البيانات الطبية أو الأدوية أوالحاصلات الزارعية أو المنتجات الطبيعية أو المنتجات الصناعية على وجه ينفى جواز استعمالها استعمالا مشروعا بقصد الغش وكذلك كل من حرض أو ساعد على استعمالها في الغش بواسطة كرأسات أو مطبوعات أو بأي وسيلة أخرى من أي نوع كانت.

وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تتجاوز السبع سنوات وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تتجاوز الأربعين ألف جنيه أو ما يعادل قيمة السلعة موضوع الجريمة أيهما أكبر إذا كانت الأغذية أو العقاقير أو النباتات الطبية أو الأدوية أو الحاصلات أو المنتجات المغشوشة أو الفاسدة أو التي انتهى تاريخ صلاحيتها أو كانت المواد التي تستعمل في الغش ضارة بصحة الإنسان أو الحيوان.
وتطبق العقوبات المقررة في هذه المادة ولو كان المشترى المستهلك عالما بغش البضاعة أو بفساده أو بانتهاء تاريخ صلاحيتها.
الجريدة الرسمية