حــــلاوة الـــــمر
ظلت السينما المصرية في مرحلة ما قبل وبعد ثورة يوليو 1952، وكذلك التليفزيون المصري في الأفلام والمسلسلات، يصورون لنا الفقر بأنه سبب سعادة الناس ويظهرون لنا الفقراء وقد احمرت وجوههم من أثر السعادة وكأنهم يعيشون في بلاد اليوتوبيا، أي بلاد الحب والعطاء، وانتشرت مقولة "يحيا الفقر والجدعنة"، فكيف يجتمع العَوز والاحتياج مع صفة الجدعنة التي تعني العطاء الدائم بلا مقابل، فالفقر ليس بالعيب، ولكن العيب كل العيب أن نرضى بالفقر ونحن أغنياء، وأن نرضى بالذل ونحن أحفاد العظماء، وأن نهدم بأيدينا كل جميل ونحوله إلى قبح وبمقدورنا تحويل القبح إلى جمال.
وكانوا يصورون لنا بيوت الفقراء؛ حيث الحجرات المتلاصقة والحمامات المشتركة في بيوت متهالكة يعيش فيها عديد من الأسر رجال وشباب وبنات وسيدات وأطفال، ويدنوها ورش ومطاعم وباعة جائلون وضوضاء من كل الأنواع، ومع كل هذا العفن الذي لا يليق بالمكانة الآدمية يظهر الممثلون علينا متحابون متعاطفون تملأهم الحيوية والنشاط.
واستمر الناس في المناطق الفقيرة في طبائعهم العشوائية، التي هي نتيجة لما عانوه من إدمان للفقر وللعشوائية التي يمارسونها من زمن بعيد.
حتى بعد أن تغير مفهوم الدراما المصرية في السينما والتليفزيون، وظهر الواقع بكل مساوئه وزاد تطلعات الفقراء أو ذوي الدخول المحدودة في طريقة استهلاكهم العشوائية، التي يظهرونها في المظهر الخارجي فقط في شراء أحدث موديلات الموبايلات والتليفزيونات مبتعدين كل البعد عن تغير الواقع الخارجي المر من ضيق في الشوارع وتكدس أكوام القمامة والروائح العفنة المنبعثة من انسداد الصرف الصحي أو محاولة تشجير الشوارع أو محاولة فعل أي شيء يقربهم من مستوى المناطق الغنية التي يطلقون عليها المناطق النظيفة، التي يقطنها أصحاب الدخول المرتفعة.
هم أدمنوا المر حتى صار حلوًا في أفواههم، فابتعدت كل الحكومات حتى عن التفكير في تغيير هذا الواقع المر؛ لأن أصحابه يأكلون المر وهم مبتسمون لا يشتكون ولا يصرخون بل يحاربون كل من فكر بمصارحتهم بهذا المرار وهذا السواد الحالك، فأنا لا أريد إثارة مشاكل خامدة ولكن كل ما أريد أن يكون الشعب هو من يبدأ بتغيير نفسه.
فبناء أمة قوية لا يمكن تحقيقه وثلثا شعبها مدمن للمر، وأكثر من أربعين في المائة منهم تحت خط الفقر، هؤلاء الفقراء بعاداتهم العشوائية الفقيرة والرخيصة، قد اخترقت القصور، وهذا لأن هؤلاء الفقراء يعملون في تلك القصور الفخمة والعمارات الفارهة وهم من يقومون بتعليم وتربية أولاد الأغنياء، وهم من يطهون لهم طعامهم بل يساعدون الأغنياء في كل نواحي الحياة الكريمة.
لذلك قد جمعت أكثر من ستمائة موقف عشوائي تخص السلوك الإنساني في مصر، تحتاج إلى جهاز إعلامي ضخم مثل التليفزيون المصري يوجه معظم قنواته ومسلسلاته وأفلامه في خدمة تغيير سلوك الشعب المصري حتى يأتي المؤتمر الاقتصادي وتأتي المشاريع الضخمة بثمارها لمصر، وحتى يكون لتلك المناطق نصيب من التغير الاقتصادي والأخلاقي للشعب المصري، فهل من مستثمر يخصص جزءا من إعلاناته ونفقاته في خدمة حقيقية يحتاجها الوطن بجانب المأكل والمشرب والمسكن والملبس، بل نحتاج ثورة أخلاقية من نوع آخر تدمر الفكر والسلوك العفن المتراكم على مر السنين، ليذوق الناس طعما جديدا للحياة، يذوقون حلاوة الشهد وحلاوة استنشاق الهواء النقي وحلاوة الحياة الكريمة، لا بد أن نبني من القاع ليرتفع البناء وأساسه قوي غير قابل للانهيار..
إن التغير أسهل ما يمكن، وهذا لأن الشعب المصري فيه جينات العظماء فهو شعب قوي ولكن هو التخطيط السيء والأفكار والمعتقدات الخاطئة وانهيار التعليم وانغلاق الفكر وتقوقعه داخل ثقافة تدعو للتطرف والإرهاب الذي أدى بنا إلى ما وصلنا إليه، فلابد من الدعوة إلى تقبل فكرة هدم وحرق القديم بكل ما فيه حتى نبدأ في البناء الصحيح الثابت قوي الأساس.
فتحية لفخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي لم يفهمه الكثيرون فهو شاغله الشاغل كل ما ذكرته ولو لم يصرح به صراحة، فلا بناء إلا بشعب يعرف كيف يبني ويقدر البناء ويصونه ويحترم القانون.
فلك الله يا مصر حماك الله ورعاك.