رئيس التحرير
عصام كامل

قانون حماية أحفاد الرئيس


الطريق إلى الفيوم محفوف بذكريات يصعب على عاشق لها أن يتجاوزها إلى ما هو أبعد من هدوئها، نضارتها، بكارتها، عذوبتها.. ليظل المحب حبيس كل معانى الدفء في بلاد أمتع ما فيها دفء البشر.. سبعون كيلومترا من الرمال الصفراء تفصلك عن أكبر واحة في العالم عندما تجد نفسك فجأة، تتدحرج بسيارتك إلى المنخفض الأخضر.. لا تزال قامات النخيل المرتفعات تنبئ أن الأرض التي تحمل في باطنها جذور النخيل لا شك أنها ستظل تحمل من سماته أصالة تراها بوضوح واحدة من ملامح الوجه الفيومى البسيط.


داخل جدران من التاريخ التليد كان موعدنا مع ورشة عمل حول “السلامة الإحيائية” وبالتحديد في فندق أوبرج الفيوم الذي لايزال يحتفظ برائحة التاريخ بقاعة الاستقبال العتيقة، وعلى جدرانها شخصيات من الزمن القديم تحكى قصصا وحكايات.

عنوان الموضوع يتشابه إلى حد كبير مع مصطلحات الشيوعيين القديمة والمعقدة.. حقيقة الموضوع أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد وإذا شئنا الدقة قلنا إنه قد يكون جزءا من حبل الحياة.. ليست حياتنا وحدنا بل يمتد هذا التأثير إلى حياة أحفادنا وأحفاد أحفادنا فالموضوع يتعلق بالهندسة الوراثية.

الأستاذ الدكتور أسامة الطيب -أستاذ الميكروبيولوجى بكلية الصيدلة- باغت الحضور بسؤال: هل الهندسة الوراثية مصدر خير للإنسانية أم مصدر شر؟.. يبدو أن الحضور قد التبس عليهم الأمر، فقد دار بخلد البعض صورة المنتج المحور وراثيا وبصورة قد تحمل من المرض أكثر مما تحمل من الصحة، بينما آثر البعض عدم استباق الآخرين في إجابة قد تكون خاطئة.

وللتوضيح؛ تساءل المحاضر الماهر بصوت مرتفع: هل بين الحضور مريض بالسكرى؟.. وقبل أن يحصى مرضى السكرى تساءل: هل يعرف أحدكم مريض سكرى؟.. ضجت القاعة بهتاف وحيد.. نعم !!

قال الدكتور أسامة: “مرضى السكرى كانوا يواجهون مرضهم قديما بالأنسولين المنتج من الخنازير والأبقار.. كان الأنسولين ينتج في المجازر حتى جاءت الهندسة الوراثية لتسمو بإنسانية الإنسان وتنتج له أنسولين بشريا”.. ومضى الدكتور أسامة مسيطرا على موضوعه ليشرح كيف نستخدم منتجات بالهندسة الوراثية في معامل التحاليل ومنها نستطيع تحديد أنواع الأمراض وغيرها.

إذن؛ والعهدة على الراوي، فالهندسة الوراثية نعمة شريطة أن يكون استخدامها في الإطار الإنسانى الملتزم.. الهندسة الوراثية قضية أخلاقية.. إنسانية.. هي قضية الحق والباطل هي العلم الذي إذا تصورنا أننا نواجهه بالتجاهل أو الخوف فقدنا أيضا إنسانيتنا وأفقدنا الأجيال القادمة الكثير من حظوظها.

وقبل أن تستقر أذهاننا إلى رحابة الخير القادم للإنسانية عبر الهندسة الوراثية، يطرق الدكتور أسامة بيد عنيفة على جرس إنذار حول المعركة التي تدور رحاها بين رؤى إنسانية وأخرى اقتصادية تسيطر عليها قسوة السوق وعهر الربح وضراوة الرأسمال المتوحش.. يضرب الرجل مثلا.. ماذا لو أكلنا ذرة مهندسة وراثيا؟ ويجيب.. قد نشبع وقد نستفيد من إنتاجية عالية أكثر قوة في مواجهة الآفات ولكن ماذا لو كانت الذرة تحمل أمراضا في ثمرتها أو أعوادها.. بالتأكيد سيتسرب المرض إلى الإنسان وإلى التربة ونصبح جزءا من حرب ضروس نوجهها للأجيال القادمة.

ويحكى التاريخ العلمى بدايات الهندسة الوراثية عام ١٩٧٢م وهى البداية العلمية التي انتقلت بعد أربعة عشر عاما إلى المساحات الأوسع.. إلى البزنس.. الزراعة.. الصناعة.. الطعام والشراب والكثير مما تلتهمه بطوننا دون أن تدرى ماذا تلتهم.. تتنامى كرة الثلج.. تكبر.. تكاد تصطدم بما هو مطروح إنسانيا منذ الخليقة.. أغنياء يتوسعون وفقراء يلتهمون أو بحاجة إلى أن يلتهموا أي شيء لمواجهة ألم الجوع.

تنتبه البشرية إلى الخطر القادم دون أن تفرط في انتصارات علمية مذهلة تنير الطريق أمام الإنسان في معركة إعمار الكون.. تخرج الأصوات العاقلة في مواجهة عجلات الإنتاج الزاحفة تسحق تحتها قيما لايزال هناك بشر يدافعون عنها.. يظهر إلى الوجود مبدأ التحوط عام ١٩٩٢ م وهو المبدأ الذي ينطلق من قاعدة “إذا لم يثبت غياب الضرر فإننا نفترض وجود الضرر”.. هكذا بدأ الضمير الإنسانى يضع المعايير والقيود لوقف الجشع ودفع عجلة العلم!!

أين تقف مصر من هذا الطوفان؟ أكثر من اثنى عشر عاما عاشتها بلادنا في صراع لا يعلم الشعب من تفاصيله إلا قشور.. علماء وضعوا قانونا شاملا تحت عنوان القانون الوطنى للسلامة “الإحيائية” وهو القانون الذي بموجبه تستطيع البلاد أن تدخل إلى هذا العالم المدهش من العلم الحديث.. تنهل من بحور خيره وتواجه أشباح شره.

دول كبرى وشركات عابرة للقارات وحسابات اقتصادية تتجاهل العنصر الإنسانى، كلها حالت دون صدور القانون.. قانون يحمى أبناءنا وأحفادنا والأجيال القادمة.. لم يفعلها مبارك الذي رضخ لوطأة الاحتلال الاقتصادى ولم يفعلها مرسي الذي وصف نفسه بأنه عالم فهل يفعلها السيسي ليحمى أحفاده من عبث الكبار؟!!
الجريدة الرسمية