العائدون إلى المخيّم
من انتظروا أكثر من ستة عقود كي يعودوا إلى مساقط رءوسهم وجدوا أنفسهم في مخيمات أخرى أشد صقيعاً وعناءً، وكان على اللاجئ أن يستضيف النازح ويقتسم معه الرغيف والعذاب والخيمة . وهكذا تحول اللائذ إلى ملاذ في غياب الملاذات الأخرى واللاجئ إلى ملجأ بعد أن أوصد ذوو القربى أبوابهم.
قبل أعوام فرَّ سكان مخيم نهر البارد إلى مخيم آخر أقل برودة، واليوم يفر سكان مخيم اليرموك في دمشق إلى البقاع ويبيتون في العراء، فهل قدر مونت كريستو انتقل من مكان إلى آخر كي يحفر السجين مجدداً في جدار زنزانته ثم يجد نفسه في واحدة أضيق منها وأشد برداً وظلاماً؟
لم يحمل لاجئو العام 1948 مفاتيح بيوتهم كي يجربوها ستّ مرات على الأقل في أقفال القصدير والصفيح، ولأول مرة تكون العودة منفى آخر جديداً، ومن حملوا أطفالهم على ظهورهم كالحطابين في غابة عراها الخريف القومي وطووا أسمالهم تحت آباطهم سارت عقارب ساعاتهم إلى الوراء، كأن الانتظار كان عقيماً، وبقي الغريب وحده يسلّي وحشته بالغناء في محطة غادرتها كل القطارات .
آخر صفير لقطار لم يكن مبشراً بالعودة عبر سكة الحجاز إلى حيفا، بل كان ولايزال واقفاً مكانه في آخر محطة، والأبواب مغلقة، وتصاريح المغادرة ممنوعة، والحواجز تتكاثر كالأميبا، حيث تلد الحوامل عندها . ويموت المحتضر أمامها، لكن هناك أيضاً من يقفزون برشاقة فوقها تماماً كما قفز أحمد الزعتر في نشيد درويشيّ من بيروت إلى الكرمل، لكن شرط من يقفز فوق الحواجز أن يتخفَّف من جسده بالموت . . عندئد يصبح روحاً لا تُرى بالعين المجردة أو حتى بالناظور العسكري الذي يختزل عشرات الأميال.
ولكي تكتمل المفارقة حملت المخيمات الفلسطينة في زمن اللجوء وما تلاه من نزوح وما أعقب الاثنين من تهجير أسماء واعدة، منها أسماء معارك كبرى وفاصلة كاليرموك وحطين وعين جالوت، وأخيراً مخيم حمل اسم العودة . لكن الأسماء أحياناً تُستخدم للتضليل كما حدث مراراً في موروثنا الشعبي يوم سُمّي الملدوغ بالأفعى السليم، والأعمى بالبصير، والأعور بصاحب العين الكريمة .
هكذا بدأ اليرموك وهكذا انتهى، وهكذا بدأت حطين وهكذا انتهت، فلا أيوبيّ ولا معتصم ولا تلبية من أي نوع للاستغاثة التي سمعها الجبل والبحر والصحراء ولم يسمعها المرسَل إليه .
من مخيم إلى مخيم إلى مخيم تلك هي دراما العودة المضادة، ورحلة عوليس الذي أعادت الأمواج الهادرة قاربه الصغير إلى الوراء، فلا هو هنا ولا هناك، ولا هو لاجئ ولا هو عائد، ولا أحد أيضاً بين المنزلتين .
إنها رحلة سيزيف الذي هاجر من أسطورة الإغريق إلى تاريخ العرب المعاصرين يتأبّط وطناً وليس صخرة فقط، ويصعد ثم يهبط عن الجبل حتى حفظت قدميه كل حصاة وعشبة على السفوح .
ما وُعد به أهل اليرموك المخيم هو يرموك أخرى تعيد الرئة اليمنى إلى توأمتها اليسرى.
لم يخطر ببال اللاجئ الفلسطيني الذي برعم البرتقال في صفيح وقصدير مأواه المؤقت لفرط ما تذكّر وحَلِم بأنه سيحمل أبناءه على ظهره كي يعود، لكن إلى مخيم آخر.
إنه زواج المأساة والملهاة الذي كان ابنه البكر ما نرى وما نسمع.
نقلاً عن الخليج الإماراتية