رئيس التحرير
عصام كامل

سيناريو كارثي لوفاة مبارك


مات مبارك.. خبر تتسابق على إذاعته فضائيات مصرية، بينما آثر التليفزيون المصري أن يلوذ بالصمت كعهده مع الأحداث الكبرى.. الإذاعة المصرية تنتهج نفس أسلوب التليفزيون.. وكالات الأنباء العالمية تبث الخبر في حينه.. قنوات الحرة والجزيرة والـ«سي إن إن» والـ«بي بي سي» كلها أعدت أفلامًا وثائقية عن مبارك القائد العسكري، ومبارك الرئيس، ومبارك المخلوع، ومبارك المحبوس، ومبارك المريض، وأخيرًا مبارك الميت.


الصحف الخاصة تتسابق على نشر تفاصيل اللحظات الأخيرة في عمر مبارك.. اتصالات مكثفة بالمحامي الكبير فريد الديب.. تصريحات مقتضبة من جمال وعلاء مبارك.. سوزان تبكي زوجها وتقول: ستعرفون قيمة مبارك في يوم من الأيام.. العواصم العربية ترتبك.. لم يصدر بيان واحد حول الفقيد من أي قصر ملكي أو قصر أميري أو مؤسسة رئاسية.

المهندس إبراهيم محلب يتصل بكثافة بمؤسسة الرئاسة.. يتساءل حول ما يمكن أن يدلي به من تصريحات.. الأحزاب السياسية تسبح فوق بحيرة من الصمت باستثناءات قليلة.. بعضها أصدر بيانات لا تحمل أي مضمون.. آسف يا ريس تعلن الحداد وترفع الرايات السوداء في عدة ميادين.. قناة صدى البلد تعرض لقطات من حياة مبارك توضح مآثره، أما قناة القاهرة والناس فإنها تظهر بشارة رمادية أعلى الشاشة لا يبدو منها حالة حداد أو عكس ذلك.

مؤسسة الرئاسة تعقد اجتماعًا سريًا بعدد من المستشارين.. موضوع الاجتماع «ماذا يجب أن تفعل الرئاسة حيال وفاة مبارك؟».. بعض المستشارين طالب بإصدار بيان عزاء، في حين ترفض الأغلبية أي إشارة من الرئاسة حول الوفاة.. قال فريق منهم إن خصوم الرئيس سوف يستغلون البيان للإساءة إليه، ومحاولة الحديث حول امتداد عصر مبارك في السيسي، في حين يرى آخرون أن الحل في رحلة سفر خارجية يعود منها بعد انتهاء مراسم الدفن وبذلك نخرج من مأزق وفاة مبارك.

المناقشات داخل مؤسسة الرئاسة أخذت طابعًا ساخنًا، حيث تم الاتصال بعدد من الشخصيات العامة لاستطلاع الأمر.. قال بعضهم إن إصدار بيان ونعي من الأهمية بمكان، وطالب آخرون بجنازة عسكرية؛ فالرئيس الأسبق حصل على حكم براءة ولا يليق بمكانة رئيس مصري أن يدفن هكذا دون حصوله على حقه.. بعضهم ناقش الفكرة من الناحية المعنوية وبعضهم رفضها سياسيًا.

القوات المسلحة تتعرض لنفس الموقف، فمبارك قائد القوات الجوية في حرب أكتوبر وهو من اختاره عبد الناصر لإعادة بناء القوات الجوية وحقق نجاحات يعرفها العسكريون جيدًا.. قادة الجيش لا يتحدثون بلغة السياسة.. يعرفون فقط قيمة الرجال وحقوقهم ولا يجوز إغفال حق واحد من أبطال أكتوبر في التكريم، والموضوع من هذه الزاوية له شق أمني مهم داخل المؤسسة العسكرية.. في النهاية لم تصل المناقشات إلى قرار.. نحن في انتظار قرار الرئاسة.

في الرئاسة تتعقد الأمور أكثر حتى يقول قائل: فلنتصل بالأستاذ، فهو ملك المواقف الصعبة.. يتصلون بهيكل في تكتم شديد.. يتحدث الأستاذ عن الخريطة السياسية الجديدة وقوى الثورة وضرورة التعامل مع الموقف وفق حسابات دقيقة.. كل الحضور ينتظرون كلمة النهاية من الأستاذ.. جنازة عسكرية أم لا؟.

يصمت الأستاذ طويلًا وهو يفكر، ثم يعود للحديث عن تجارب مماثلة وينتهي به المطاف إلى طلب مهلة زمنية لساعات يصيغ فيها بيانًا يصدر عن مؤسسة الرئاسة يرضي كافة الأطراف.. يخرج الأستاذ وسط حالة من الوجوم.. لم يفكر أحد من قبل فيما يمكن أن تسببه وفاة مبارك لمؤسسات مهمة مثل الرئاسة.. المهندس إبراهيم محلب يخرج في جولة لبعض قرى المنوفية.. يزور عددًا منها دون زيارة كفر مصيلحة رغم أن أهالي الكفر أقاموا عزاء في ابنهم بعد أن أصدروا بيانًا للأمة يوضح التقاليد التي تفرض عليهم ذلك!!

قوى الثوار تطالب باستمرار محاكمة مبارك بعد وفاته للتاريخ، في حين يرفض خبراء قانونيون ذلك باعتبارها سابقة لم تحدث.. الإخوان يصدرون بيان شماتة تحت عنوان «ماذا ستقول لربك اليوم يا مبارك؟»، وفتاوى إخوانية تؤكد أن الرئيس الأسبق مصيره النار، وفتاوى أخرى من شيوخ مستقلين يرفضون فتوى الإخوان.. وجدي غنيم يروي حكاية رؤياه التي رأى فيها مبارك يطلب من مرسي وبديع والشاطر أن يسامحوه على ما فعله في الإخوان.

قناة الجزيرة تعرض فيلمًا وثائقيًا؛ انتقاما من مبارك تحت عنوان «رحيل طاغية».. الفيلم يتضمن لقطات عنف ودماء وقتل مفبركة ومذيع الجزيرة يقول: رحل فرعون مصر والانقلابيون في مأزق، أما قناة «مكملين» فإنها تعرض فيلمًا تمثيليًا عن بطولات الإخوان في عصر مبارك وتقول إن بديع قال له في لقاء سري سنقاتل حتى نسقط نظامك، وتبرر مقولة بديع بأنه أحد أبناء مبارك، وأن مبارك أب لكل المصريين بقولها إن بديع كان يقصد أن الله يخلق من ظهر الفاسد عالم!!

هيكل يتصل بالرئاسة طالبًا موعدًا الليلة بعد أن توصل لحل عبقري.. الكل في انتظاره.. يصل الأستاذ.. يجلس بين الجميع والجميع له منصتون.. يقول الرجل: استدعوا جمال مبارك فورًا واطلبوا منه أن يصدر بيانًا يقول فيه إن الرئيس ترك وصية يطلب فيها أن يدفن بهدوء ولا تقام عليه جنازة عسكرية وتتلقى الأسرة عزاءه على المقابر دون سرادق.. يتهلل وجه الجميع؛ ففي هذا الإخراج «إخراج» للجميع من «الإحراج».

دقائق تمر ويعود المتصل بجمال للقول: جمال يرفض ذلك ويؤكد حق أبيه في التكريم والجنازة العسكرية.. يرد الأستاذ: تحدثوا معه حول المخاطر التي تحيق بالبلاد وذكروه بوطنيته التي تفرض عليه هذا القرار الصعب.. يعودون إلى جمال وبعد محاولات يصدر بيانًا مقتضبًا من الأسرة يؤكدون فيه ما ذكره الأستاذ.. الجميع يتنفس الصعداء.. يدفن مبارك في هدوء ويظل الأستاذ أستاذًا كما عهده المصريون!!
الجريدة الرسمية