التسعينيات.. وما أدراك ما التسعينيات !
أعود بكم إلى تسعينيات القرن الماضي، عندما قرر حزب الأحرار الذي كان يتزعمه في ذلك الوقت الراحل مصطفى كامل مراد، عقد مؤتمره الانتخابى بقاعة بنك التنمية والائتمان الزراعى بشارع قصر العيني.. ضجت القاعة بالحضور من كافة محافظات مصر والكل في انتظار زعيم الحزب المحبوب.. لحظات ووصلت سيارته.. كان اليوم يوم جمعة.
نزل مصطفى كامل مراد من سيارته وسط ترحيب قادة الحزب وقواعده، وقبل أن يدخل الرجل إلى القاعة، إذا بسيدة ترتدى عباءة سوداء تقف أمام زعيم الحزب الذي ظن أنها جاءت لتحيته، وقبل أن يمد يده إليها مصافحًا مزقت عباءتها من أعلى منطقة صدرها وصرخت وهى تردد «الراجل ده اعتدى عليا ياناس».
ووسط حالة من الهرج والمرج ودون أن نعرف تفاصيل قصة المرأة، وبطريقة منظمة اقترب ضابط شرطة من السيدة، وطلب منها تقديم بلاغها ضد المعتدي.. ساعتها أدركنا جميعا أن المقصود هو الإساءة إلى زعيم الأحرار.. حملناه سريعا إلى داخل القاعة وطردنا رجال الأمن وأغلقنا الباب برجال أشداء وعقدنا مؤتمرنا..
في نفس المساحة الزمنية من هذا العصر كان حزب العمل يعقد مؤتمره السياسي الانتخابى بزعامة المهندس الراحل إبراهيم شكري، عندما فوجئ من بالقاعة بعدد من الثعابين تجرى بين الحضور.
مثل هذه المشاهد وغيرها كانت عناوين لصحف تابعة للدولة في ذلك الوقت.. كانت الصور الأخرى من حالة الحصار الرسمى للأحزاب السياسية أكبر من أن تحصى.. مؤتمرات حزبية موازية تعقد ضد قادة الحزب الأصليين ولجنة شئون الأحزاب والتي كنا نسميها «لجنة تفكيك وحصار الأحزاب» تنتظر إخطارات بمؤتمرات وهمية للانقلاب على القادة الشرعيين وفجأة يجد الحزب نفسه في متاهة الحل ودوامة تعدد الرؤساء.
لم يكن ذلك وحده هو ما تتعرض له الأحزاب السياسية التي تم تفريغها وخلق الصراعات بها، وفى ذات الوقت كان قادة الإخوان المسلمين ينعمون بحالة من التدليل المنظم.. لم يسمحوا للأحزاب الشرعية بعقد مؤتمراتهم وسط الجماهير.. حاصروهم في مقرات ضيقة.. رفضوا تواصلهم مع الجامعات والمعاهد فكان نصيب الإخوان هو الفوز بكل الجامعات.
هذبوا الأحزاب وسجنوها وأساءوا إلى قادتها ونسجوا من وهم القصص حكايات مثيرة حول علاقات مشبوهة هنا وهناك، وأعادوا إلى الأذهان قصة أن «الحيطان لها ودان»، فكان العمل في صحيفة حزبية أو الانضمام إلى حزب سياسي هو نوع من التضحية.. خلقوا كيانات حزبية تحت شعار «العدد في الليمون».. قلموا أظافر الجميع فأصبح للإخوان مخالب، وعندما قامت الثورة الشعبية ظن نظام مبارك أنه يستطيع جمع أحزاب المعارضة للتحاور معهم.. أراد أن يسند ظهره على من كسر ظهورهم فلم يجد إلا أعدادًا ضئيلة لاعلاقة لها بحركة الشارع الجارفة.. خاب ظنه فقرر التنحى.
كانت المعلومات التي تقدمها أجهزة جمع المعلومات في جهاز أمن الدولة قديما، كلها تصب في خانة واحدة.. «الأحزاب السياسية إما مهترئة أو عميلة»، وكان الرئيس من المغرمين بالسخرية من قادتها في كل اجتماع يدعوهم إليه، ليصبحوا مادة لسخريته ونكاته.. تصور مبارك أن لديه حزبا قويا قادرًا على جمع الصف الوطنى في تيار واحد، وعندما سقط اكتشف زيف ما يعلم.
بعد فوات الأوان اكتشف مبارك أن الأنظمة القوية لابد وأن يكون لديها معارضة قوية، واكتشف أن تداول السلطة سلميا أعظم أثرا على الأوطان من الثورات التي يدفع ثمنها شعب يعانى ويلات الفقر والعوز والحاجة.. واكتشف أن حزبه كيان ورقى لم يقوَ على تقبل الصدمة الجماهيرية الأولى.. هرب أعضاؤه وتخلوا عنه في لمح البصر، وذلك كله تحت شعار «إن جتلك الثورة حط مبارك تحت رجليك»، وفعلا دهسته الأقدام وداست حتى على صفحات وسجلات الشرف في حياته.
وبعد السقوط خرجت الأفاعى من جحورها بعد أن سمنت وترعرعت ونمت وكبرت والتهمت الثورة في أيام معدودة، وقفزت على السلطة، وأرادت اختطاف الوطن فكان ما كان من ثورة أخرى أطاحت بالجناة الجدد.. كل ذلك؛ ومبارك حبيس النفس والجسد يعانى ويلات ما صنع، وبعد سنوات ثلاث قال القضاء كلمته فيما قُدم أمامه من أوراق، والحكم القضائى عنوان الحقيقة.. خرج مبارك ومعه رجاله غير أن هذا الحكم ليس الأخير.
للتاريخ كلمة أخرى، سيكتبها للأجيال.. وللتاريخ عبر ودروس يقدمها أيضا للحكام.. والأيام القادمة قد تحمل حكما غير ذلك الذي أصدرته محكمة جنايات القاهرة، فلا تكبروا وتهللوا لجزء يسير من الحقيقة، فالحقيقة قادمة في الطريق.