تفعيل المجالس المحلية من خلال النيابة الإدارية
لم تعرف مصر نظام الإدارة المحلية بمفهومه المعاصر إلا في أواخر القرن التاسع عشر، إذ كان النظام السائد قبل ذلك هو نظام الحكم المطلق المركزى، فأول قانون نظم شئون الإدارة المحلية في مصر كان القانون الصادر عام 1883، الذي نص على إنشاء ما كان يسمى بالمديريات، والتي أطلق عليها بعد ذلك مسمى المحافظات، لكن ذلك القانون لم يمنح هذه المديريات عند إنشائها الشخصية الاعتبارية، وهو ما تم تداركه بعد ذلك بالقانون رقم 25 لسنة 1909 الذي منح المديريات الشخصية الاعتبارية.
فقبل صدور دستور 1923، كانت مصر حتى سنة 1799 مقسمة محليا إلى 16 مديرية وفقا للقرار الصادر من نابليون بونابرت في 27 يوليو 1798، وفي الفترة من عام 1799 وحتى تولى محمد على الحكم في عام 1805، أعيد تنظيمها بأن تتكون من 8 مديريات فقط وفقا للقرار الصادر من كليبر في 14 سبتمبر 1799، وفي عام 1805 بعد تولى محمد على الحكم أعاد تقسيم البلاد إلى 14 مديرية، وقسم كل مديرية إلى مراكز على رأس كل منها مأمور، وقسم المراكز إلى أخطاط على رأس كل منها ناظر، وقسم الأخطاط إلى قرى على رأس كل منها عمدة أو شيخ بلد، ولم تكن هذه التقسيمات كلها تقسيمات وحدات إدارة محلية وفقا للمفهوم المعاصر، إنما في حقيقتها كانت عبارة عن تقسيمات إدارية ينوب رئيسها عن الوالى أو السلطة المركزية الذي كانت له كل السلطات.
وقد طبقت مصر أول نظام للإدارة المحلية، بعد الاحتلال الإنجليزى لمصر عام 1882، ويعد صدور دستور 1923 هو أول اعتراف دستورى بالإدارة المحلية في مصر، إذ أفرد نصوصا لتنظم شئون الإدارة المحلية، ومنح المجالس المحلية الشخصية الاعتبارية وذلك بناء على المادة 123 من دستور 1923، إلا أن نشاط المجالس المحلية ظل معطلا لفترة بعد صدور دستور 1923، بسبب عدم صدور التشريعات المنظمة لشئونها، حتى صدر القانون رقم 17 لسنة 1928 الذي يعد أول قانون نظم انتخاب أعضاء المجالس المحلية.
وقد استمر الاعتراف الدستورى المصرى بالإدارة المحلية في الدساتير اللاحقة، إذ نصت على ذلك المادتان 121، 122 من دستور 1930، والمواد من 157 إلى 166 من دستور 1956، وعلى ذات النهج أتى دستور 1971 الذي أفرد الفرع الثالث من الفصل الثانى للإدارة المحلية في المواد من 161 إلى 163، وهو ذات النهج الذي سار عليه الدستور الحالى الصادر في 18 يناير 2013، إذ أفرد للإدارة المحلية المواد من 175 وحتى 183، وأهم ما أتى به الدستور الجديد من أحكام في المادة 179 هو استحداث أسلوب جديد لاختيار المحافظين ورؤساء الوحدات الإدارية المحلية الأخرى بأن يجوز أن يتم ذلك بالانتخاب أو بالتعيين، وهو ما لم تشهده مصر في تاريخها من قبل، بأن يتم انتخاب المحافظ من أهالي المحافظة.
وعلى الرغم من أن مصر، على نحو ما بينا سلفا، من الدول العريقة في الأخذ بنظام الإدارة الذي شيدته منذ ما يقارب المائة والخمسين عاما، وهي مدة زمنية تكفى بالقطع لأن يكتمل لنظام الإدارة المحلية مقوماته الدستورية والقانونية التي تمكنه من أداء دوره الطبيعى، إلا أن ذلك لم يكن له صدى عند مشرع، خضع لسلطان السلطة التنفيذية، التي توغلت عليه، وسلبته إرادته، فصار ما يسطره من قوانين معبرا عن إرادتها في الهيمنة والسيطرة على كل الأجهزة والهيئات في الدولة، بدلا من أن يكون معبرا عن المصلحة العامة وحدها.
فظهر ذلك بينا وجليا، في نصوص القانون المنظم لشئون الإدارة المحلية رقم 43 لسنة 1979، الذي فرغ نظام الإدارة المحلية من مضمونه، وسلبه استقلاله وفاعليته، وسمح بتوغل السلطة التنفيذية عليه، مستغلا في ذلك أن المشرع الدستورى درج على الإحالة إلى القانون لتنظيم أغلب شئون الإدارة المحلية لاسيما دور المجلس الشعبى المحلى في إعداد وتنفيذ الرقابة على أوجه النشاط المختلفة، فتمكنت السلطة التنفيذية من الهمينة والسيطرة على المجالس المحلية.
وحسنا فعل الدستور الحالى حينما عمد إلى النص على اختصاصات المجالس المحلية في متابعة تنفيذ خطة التنمية ومراقبة أوجه النشاط الحكومى المختلفة، وهو ما يقتضى توفير آليات للمجلس الشعبى المحلى للمحافظة يتمكن بموجبها من مباشرة دوره الدستورى في مراقبة أوجه النشاط الحكومى، ففى أحوال كثيرة قد يصل إلى علم أعضاء المجلس المحلى أن هناك سلبيات في مرفق حكومى، مستشفى عام أو مدرسة حكومية، أو غيرها من المرافق العامة، فلا يكون أمام أعضاء المجلس المحلى من أدوات رقابية لمعالجة هذه السلبيات والتحقق منها وتحديد أسبابها وما إذا كانت ترجع إلى أخطاء من الموظفين أم إلى أسباب عامة تتعلق بالنواحى المالية أو بسبب ثغرات في اللوائح والقوانين، إلا توجيه الأسئلة وطلبات الإحاطة إلى المسئولين التنفيذين المعنيين بالمحافظة، الذين عادة سيلجئون إلى التهوين من المخالفات، والدفاع عن أنفسهم وعن تصرفات مرءوسيهم.
وهنا لن يكون أمام المجلس المحلى وسيلة ليتبين من خلالها حقيقة الأمر، فيضطر المجلس إلى حفظ الموضوع بالجملة الشهيرة الانتقال إلى جدول الأعمال، وبذلك تتحول رقابة المجلس الشعبى المحلى على الأداء الحكومى إلى رقابة صورية، غير فعالة، وغير منتجة، ولذلك نرى ضرورة توفير آليات جادة ومحايدة تمكن المجلس المحلى من تقصى الحقائق، والوقوف على مواطن الخلل في المرافق المختلفة داخل المحافظة، وتحديد المتسبب في هذا الخلل من الموظفين، مما يمكن من محاسبتهم عن إهمالهم وتقصيرهم، ومعالجة مواطن الخلل، لذلك نقترح أن ينص مشروع قانون الإدارة المحلية الجديد على إعطاء المجالس الشعبية المحلية الحق في إبلاغ النيابة الإدارية بالمخالفات والمشكلات التي تصل إلى علم المجلس بمختلف المرافق العامة بدائرة المحافظة.
وعلى النيابة الإدارية إخطار المجلس الشعبى المحلى بما كشفت عنه تحقيقاتها من نتائج، ليتخذ المجلس المحلى ما يراه مناسبا من إجراءات حيال هذه السلبيات، لمعالجتها ومنع تكرارها، وذلك بالتعاون مع المحافظ المختص، وذلك كله دون الإخلال بالمسئولية التأديبية لمن يثبت تقصيره الوظيفى من الموظفين، والتي تتولاها النيابة الإدارية وفقا لأحكام القانون والدستور.